حدثٌ لم يكون عادياً؛ قالها كاتبٌ في الصحافة المحلية في اليوم الثاني للاجتماع التشاوري لمناضلي وأصدقاء جبهة التحرير الوطني البحرانية، المنعقد في يوم الجمعة 13 يوليو 2001 في قاعة نادي طيران الخليج بمنطقة سلماباد بحضور حوالي 400 من مناضلي وأصدقاء الجبهة، لأول مرة في تاريخهم يجتمع مناضلو جبهة التحرير وأنصارهم في البحرين بشكل علني بعد 46 عاماً على تأسيس حزبهم في 15 فبراير 1955، حتى تاريخ (الاجتماع 13 / 7/ 2001 ).
جاء الاجتماع بعد عقود من النضالات والتضحيات قدّمها مناضلو “جتوب”، ودفعوا الثمن غالياً من استشهاد وسجن واعتقال ومنفى ومطاردة، فصل من العمل ومنع من السفر والبعض الحرمان من السكن، إجراءات تعسفية عديدة إبَّان مرحلة الاستعمار البريطاني وبعده و حقبة قانون أمن الدولة وتدابير محكمة أمن الدولة بعد حل المجلس الوطني المنتخب من الشعب في 26 أغسطس 1975.
حقبةٌ استمرت ربع قرن (1975/2001)، بالرغم من كل هذه الظروف والأوضاع الصعبة التي عاشتها “جتوب”، ظلّت راية النضال الوطني خفاقة في سماء البحرين يرفع الراية لمواصلة المسيرة النضالية جيل بعد جيل وصولاً إلى مرحلة الانفراج السياسي في فبراير 2001، عهد ميثاق العمل الوطني، بإطلاق سراح المعتقلين والسجناء السياسيين وعودة المنفيين وإلغاء قانون أمن الدولة السيِّئ الصيت، فطويت صفحة سوداء، وفتحت صفحة جديدة وعهد سياسي جديد، كان الأمل معقوداً عليه بأن تتطور التجربة نحو مزيدٍ من الحريات العامة والديمقراطية، ولكن جرت أحداث عديدة كان أكثرها تأثيراً أحداث 2011 التي انقسم فيها الشعب، وتداعياتها الكارثية التي لازالت مستمرة حتى في ظل وجود جائحة كورونا منذ عام ونصف لم نتعافَ من وباء الطائفية والكراهية وهو الأخطر من وباء كورونا .
كيف انعقد الاجتماع التشاوري “التأسيسي” للمنبر التقدمي ؟
هنا نسجل بعض الوقائع للتاريخ، ليس بالتفاصيل لأنه لا يتسع المقام هنا، لذا سنؤجله لوقت آخر لكي يساهم فيه الرفاق المشاركون منذ بداية الإعداد، ربما يقول قائلٌ بأن الحدث ليس قديماً مضى عليه فقط عشرون عاماً لازال الوقت مبكراً لتدوين أو تسجيل أحداثه، فنقول هذا مقال يذكر فيه بعض ماجرى وليس التفاصيل أو نشر بعض الوثائق أو المحاضر في مراحل الاعداد والتحضير، فهذا نتركه لوقتٍ آخر.
نحن بصدد حزبٍ سياسي، ماركسي، كان يعمل بشكل سري منذ تأسيسه في الخامس عشر من فبراير 1955، حتى 13 يوليو من عام 2001، يوم بروزه للعلنية لأول مرة في تاريخه، فجبهة التحرير الوطني البحرانية، حزب قام على المبادئ والأسس اللينينية في البناء الحزبي والفكري والتنظيمي، هذا ما عبَّر عنه نظرياً وممارسةً وتطبيقاً عندما تأسَّس على أسس التحالف مابين العمال والكادحين والمثقفين الثوريين وارتبط ارتباطاً وثيقاً بالجماهير، وصاغ برنامجه الأول الصادر في عام 1962 وفق مقتضيات تلك المرحلة، حيث كان يخوض نضالاً وطنياً ضد الاستعمار البريطاني والرجعية، مما يتطلب رؤية وطنية واضحة في مرحلة التحرر الوطني ضد الاستعمار وأعوانه، كان الرفاق الأوائل المؤسسون لجبهة التحرير الوطني البحرانية موفقين في اختيار اسم الجبهة تيمناً باسم جبهة التحرير الوطني الجزائرية التي كانت تخوض نضالاً وطنياً ضد المستعمر الفرنسي تأسست في عام 1954 يعني بعام قبل “جتوب”، والجبهة الوطنية في إيران إبَّان حكومة مصدق الوطنية قبل إسقاطها في عام 1953 من قبل المخابرات البريطانية والأمريكية وإعادة الشاه إلى الحكم في إيران .
ثمة شيء آخر واجه جبهة التحرير ألا وهو العداء للفكر الشيوعي وبوصفها حزباً ماركسياً كان ذلك شائعاً وبارزاً إبَّان فترة المد القومي وتأثير ثورة 23 يوليو 1952، إلَّا أن هذا لم يمنع الجبهة من الانتشار في صفوف الجماهير ورفع مطالبها والدفاع عن حقوقها، منذ تأسيسها ركزّت الجبهة نشاطها في الداخل لأهميته وتأثيره في كيفية اتخاد القرارات السياسية والتنظيمية مع الواقع الملموس لبلادنا بأن تكون وطنياً، وعربياً وأممياً، تتفاعل مع القضايا الوطنية والعربية والعالمية ، وبالأخص في تلك الفترة كانت ثورة الجزائر وبعدها الثورة الفلسطينية التي انطلقت في الأول من يناير 1965، تشكل الثورات الأهم في البلدان العربية والتضامن مع نضال حركة التحرر الوطني العربية وفي العالم ضد الرجعية والاستعمار والإمبريالية ومن أجل الحرية والاستقلال الوطني والتقدم الاجتماعي والسلم، كان الانتصار الذي تحقق من قبل الاتحاد السوفييتي والحلفاء على النازية في الحرب العالمية الثانية “1939/ 1945” له تأثيرات كبيرة على العديد من البلدان والشعوب في العالم، بعد بروز دول المنظومة الاشتراكية، وساهم كل ذلك في نشر الأفكار الاشتراكية في شتَّى بقاع العالم.
لقد واجهت الجبهة صعوبات وتحدّيات كبيرة منذ تأسيسها وتعرضت للعديد من الضربات القمعية طوال تاريخ نضالها، وبشكل خاص ضربة عام 1986، التى استشهد فيها رفيقنا الدكتور هاشم العلوي وزُجَّ بالعشرات من مناضلي الجبهة في السجون والمعتقلات وصدرت أحكام قاسية على البعض منهم، وكان لهذه الضربة البوليسية أثر واضح في نشاط الجبهة في داخل البلاد وبعد خمس سنوات وتحديداً في عام 1991 جاء انهيار الاتحاد السوفياتي وتفكيك دول المنظومة الاشتراكية وبانتهاء ما كان يعرف بالحرب الباردة بين المعسكرين الاشتراكي والإمبريالي ونشوة الانتصار الإمبريالي بدون حرب على الانظمة الاشتراكية، كما عبَّر عنه الكثير من منظري الفكر الرأسمالي، وعودة “الليبرالية” تحت عباءة حقوق الإنسان ونشر الديمقراطية وغيرها من العناوين البرَّاقة.
انساق العديد من الماركسيين، عرباً وأجانب، لتلك الأفكار الليبرالية وأصبحت النظرية الماركسية وأحزابها بالنسبة لهم من الماضي، وهكذا بكل بساطة انكشفت حقيقة الانتهازية السياسية والخواء الفكري للعديد من المثقفين الماركسيين الذين تساقطوا الواحد تلو الآخر، ما شكَّل هذا صدمة كبيرة للعديد من المناضلين ولكن بقي من تمسَّكوا بالفكر والمبدأ في واقع صعب ومعقد للغاية رافضين تلك الارتدادات والتموضعات الجديدة، ومن جهة ازداد صعود التيارات الإسلامية بكل تنوعاتها في بلادنا والبلدان العربية وأصبحت تلتف حولها قطاعات واسعة من الشباب التواقين للتغيير والخلاص من الواقع الذي يعيشه، فلم تعد الأفكار الاشتراكية تستقطب الشباب مثلما كانت في سنوات صعود اليسار في بلادنا.
كان علينا أن نفكر هل نحن بصدد تجميع مناضلي وأنصار جبهة التحرير أو تشكيل إطار حزبي وسياسي جديد ، وهل لازال العديد من المناضلين والأنصار ومن عمل في الأطر الجماهيرية للحزب، العمالية والنسائية والشبابية والطلابية، قبل ضربة 1986، ملتزمين بخط الحزب وكان العديد منهم من النشطاء كلٌّ في موقعه، وإن ترك البعض منهم العمل السياسي والجماهيري، وانشغل آخرون في حياتهم الجديدة “العمل، الزواج، الدراسة وغيرها”، والبعض منهم لم يعد يؤمن بالأفكار الماركسية لتلك الأسباب المذكورة سلفاً، فنحن أمام واقع جديد كيف نتعاطى معه؟
كانت تلك التساؤلات ماثلة أمامنا، فماذا نفعل؟
بدأنا لقاءاتنا بعدد قليل حتى وصلنا إلى تسعة من الرفاق معظمهم من أجيال لاحقة سواء في الجبهة أو أشدب، “فرقة الكومندوز” مثلما كان يحلو لرفيقنا الصحافي الراحل أحمد البوسطة بأن يطلق عليها تلك التسمية، كانت الاجتماعات منتظمة بشكل أسبوعي على مدار أكثر من شهرين، طرحت فيها كل تلك الأسئلة ودارت حوارات واسعة، وبعد تلك الفترة الأولى من مرحلة الإعداد، طرحت فكرة توسيع لجنة الإعداد التي وصل أعضاؤها إلى حوالي 30 رفيقاً ورفيقة، ولكن عند حضور الاجتماعات كان العدد أقل، وآخرون من نفس قائمة الثلاثين رفضوا فكرة تأسيس المنبر التقدمي، وإن أصبح بعضهم فيما بعد أعضاء فيه.
في فترات لاحقة من تأسيسه وبعد إشهاره، و بعد مخاضٍ لم يكن سهلاً كان جيل الشباب هو الذي يقود العمل، في واقع سياسي جديد وتجربة حزبية علنية لم يتعود عليها من مارس العمل الحزبي بشكل سري، تصدر القرارات من القيادة على القواعد الحزبية تنفيذها وفق مبدأ المركزية الديمقراطية، غياب انعقاد المؤتمرات العامة وهي الأهم التي تناقش فيها القرارات الحزبية ويقرّ فيها البرنامج السياسي والنظام الأساسي للحزب وتنتخب الهيئات الحزبية، وتصدر القرارات والتوصيات، هذا نشاط حزبي جديد علينا تحدث فيه السلبيات والثغرات، وبالمقابل هناك ايجابيات منها إبراز الكفاءات والقدرات للعديد من الرفيقات و الرفاق .
في الاجتماع التشاوري طرحت العديد من الآراء والمقترحات، غير الذي قدمته لجنة الإعداد من مسودة لديباجة سياسية تحتوي على مقدمة وتصورات وأهداف سياسية بما في ذلك مقترح اسم التنظيم المنبر الديمقراطي التقدمي، وفي نهاية الاجتماع تمّ انتخاب لجنة تحضيرية من أحد عشر عضواً من الحضور مهمتها إعداد البرنامج العام وأهداف المنبر التقدمي، وفيما بعد تمّ عقد اجتماع آخر في فندق الدبلومات بتاريخ 14 سبتمبر 2001 لتسجيل الأسماء وجمع البطاقات الشخصية وإقرار النظام الاساسي والأهداف وهذا المتبع في حال تأسيس أي جمعية تابعة لوزارة العمل لتقديمها للوزارة من أجل إشهار أي جمعية التقدمي، حيث لم يكن هناك بعد قانون للأحزاب، وحصل المنبر التقدمي على الاشهار في 10 أكتوبر 2001، وبعد ذلك قامت اللجنة التحضيرية من خلال لجانها المتعددة بالإعداد والتحضير للمؤتمر التأسيسي الذي انعقد في 10نوفمبر 2001 في جمعية المهندسين لانتخاب أول مجلس إدارة للمنبر التقدمي.
مضى عشرون عاماً على ذلك الاجتماع التاريخي، وخلال تلك الفترة جرت أحداث ووقائع عديدة كان المنبر التقدمي حاضراً ومشاركاً في بعضها، أما أين أصاب في موافقه وآرائه وأين أخفق، فلا بدّ من التوقف عندها لاستخلاص الدروس والعبر، وتطوير الإيجابيات وتلافي السلبيات، لكي يواصل المسيرة النضالية التي بدأت في 15 فبراير من عام 1955 من أجل الوطن والشعب، وتحقيق المساواة والديمقراطية الحقة والعدالة الاجتماعية.