جورج طرابيشي – العلمانية كإشكالية إسلامية – إسلامية

0
46

في مقاربتهِ للعلمانية يُشير المفكر السوري الراحل جورج طرابيشي إلى أن خصوم العلمانية في الساحة الثقافية العربية المعاصرة، سواء أكانوا من دعاة الحداثة أم من دعاة القدامة، يتفقون على اعتبارها نموذجاً لإشكالية مستوردة. فالعلمانية في رأيهم هي من إفراز الغرب المسيحي، وتحديداً في الصراع ما بين اللاهوتي والسياسي.

هكذا كان يرى برهان غليون في كتابهِ “المسألة الطائفية ومشكلة الأقليات” إلى أن العلمانية إشكالية مصطنعة ومنقولة عن الغرب. وكذلك محمد عابد الجابري، الذي قال: أن العلمانية هي نموذج لإشكالية عادمة اللزوم ومُستغنى عن خدماتها، لأن العلمانية تعني فصل الكنيسة عن الدولة، والإسلام ليس فيه كنيسة لنفصلهُ عن الدولة. المُفكرين السابقين توصلا إلى نتيجة-غريبة-أن ربط استيراد العلمانية كان بحاجة الأقلية المسيحية إلى إعادة ترتيب علاقاتها بالغالبية المسلمة. بينما ذهب المصري حسن حنفي إلى أبعد من ذلك باتهامهِ مستوردي العلمانية، أي نصارى الشرق، بالعمالة الحضارية للغرب.

هذا عن دعاة الحداثة، أما دعاة القدامة فإنهم ينطقون بلا تمايز بلسان واحد بأن العلمانية فكرة مستوردة من الغرب الكافر، وليس غريباً من دعا إلى العلمانية بشعارها الصريح أو تحت أسماء أخرى كالقومية واليسارية والوطنية هم نصارى الشرق، الذين يضمرون في قلوبهم الحقد والكراهية للإسلام والمسلمين. لا شك أن العلمانية في وجه من وجوهها تمثل مطلباً للأقليات بقدر ما يمكن أن تقدم لها ضمانه للمساواة التامة أمام القانون. والأقليات في المجتمعات العربية الإسلامية ليست حصراً على الأقليات المسيحية، لذلك يجب أن نُدرك أن العلمانية فلسفة وآلية لتسوية العلاقات لا بين الأديان المختلفة فحسب، بل كذلك بين الطوائف المختلفة في الدين الواحد.

بمعنى آخر فإن قضية العلمانية في العالم العربي ليست قضية مسيحية – إسلامية، كما يُطيب لخصوم العلمانية تصويرها، بل هي أيضاً، قضية إسلامية – إسلامية. ويعلل طرابيشي تركيز خصوم العلمانية على البعد الأقلوي المسيحي لإشكالية العلمانية إلى إخفاء المشكلة الأساسية والأكبر المتمثلة في بعدها الطائفي الإسلامي.

وفي تحليلهِ إلى انفجار الوضع الطائفي في العراق بعد الغزو الأمريكي وسقوط حكم النظام البعثي في 2003 لا يختزل طرابيشي ذلك في الوجود الأمريكي، بل يعود إلى التاريخ العربي الإسلامي ليستنتج أن الصراع الطائفي متجذراً في مستنقع الطائفية القروسطية. وبأن الطائفية في الإسلام ليست حدثاً طارئاً ولا مصطنعاً بعامل خارجي: فهي قديمة قدم الإسلام نفسه. أو قل إنها ثابتة من ثوابت الإسلام التاريخي، حتى لا نُحمّل الدين مسؤولية ذلك.

يطرح طرابيشي سؤلاً عريضاً: كيف السبيل إلى تسوية العلاقات المتوترة دوماً بين طوائف الإسلام؟ أعن طريق الديمقراطية كما ينادي محمد عابد الجابري الذي طالب ذات يوم بسحب كلمة العلمانية من قاموس الفكر العربي والاستعاضة عنها بشعاري العقلانية والديمقراطية؟ ولكن كيف السبيل إلى عقلنة ودمقرطة العلاقات بين الطوائف الإسلامية المتكارهة علناً أو سراً في ظل تغييب متعمد للعلمانية التي هي الدواء الشافي للداء الطائفي؟

وعلى سبيل الجدل، يقول طرابيشي، لنسلّم لهم بحلهم الديمقراطي، غير أننا نعلم أن عماد الديمقراطية الأول هو صندوق الاقتراع. ولكن في وضعية طائفية لن يصوت الناخبون إلا لممثليهم الطائفيين. وكذلك نعلم أن عماد الديمقراطية الذي لا يقل أولوية هو المنافسة السياسية بين الأكثرية والأقلية. والحال أن الأكثرية والأقلية في المنافسة الطائفية ثابتتان لا تتغيران، اللهم إلا إذا تغير ميزان القوى الديمغرافي.

وعلاوة على هذا كلهِ فإن المنافسة الديمقراطية تقوم على مفهوم الخصم، والخصم المطلوب التغلب عليه متقلب وقابل باستمرار لأن تتبدل هويته، على حين أن المنافسة الطائفية تقوم على مفهوم العدو، والعدو ثابت ولا تتغير هويته، ولا سبيل إلى التغلب عليه إلا بقمعهِ أو حتى باستئصالهِ.

وأخيراً فنحن نعلم أن كل فلسفة الديمقراطية وآليتها معاً تقومان على اعتبار الأمة أو الشعب هو مصدر التشريع. والحال أن الإسلام، كما هو سائد اليوم على الأقل، لا يعترف بمصدر آخر للتشريع سوى القرآن والسنة، بالإضافة إلى إلهام الأئمة الاثني عشر عند الشيعة.

يؤكد طرابيشي في دفاعهِ عن العلمانية بأنه لا يهدف إلى جعلها إيديولوجيا خلاصية كما فعل الكثيرون مع فكرة الوحدة العربية أو الاشتراكية بالأمس، وكما يُفعل اليوم مع فكرة الديمقراطية. بل من المهم أن تقوم العلمانية في المجال العربي الإسلامي على التحييد الديني للدولة، والتحييد الطائفي للدين نفسه. فهنا ليس المطلوب علمنة الدولة وحدها على مستوى السطح، بل أيضاً علمنة المجتمع على مستوى العمق. وعلمنة المجتمع إنما تعني تمكينه من إعادة تربية نفسه ليقبل بشرعية التعدد في الأديان وبشرعية تعدد الطوائف في الدين الواحد.

وستتيح العلمنة الفرصة للإسلام كيما ينعتق من طوق التسيس والأدلجة الذي يكبّله به اليوم دعاة الإسلام السياسي بمختلف تياراتهم وتلاوينهم من خلال رفعهم وتطبيقهم شعار إعادة الأسلمة التي تعني عمليا تحويل الإسلام من دين إلى إيديولوجيا مناهضة للحداثة.