الشّباب ومؤسسات المجتمع المدنيّ

0
83

أسطوانة مشروخة

  تعاني منظمات المجتمع المدني الأهلية (جمعيات سياسية، جمعيات نسائية وجمعيات مهنية) من التناقص المستمر في عدد أعضائها، وفي عدد الناشطين من أولئك الأعضاء. في الوقت ذاته تجد هذه المؤسسات نفسها غير قادرة على ضخ دماء جديدة لصفوفها، كما يندر لديها تفريخ قيادات جديدة تتبوأ مسئوليات إدارتها، وهي حالة شبه عامة في كافة المنظمات المذكورة على الصعيد المحلي وربما خارجه.

  وإن حدث والتحق بعضوية هذه المنظمات أعضاء جدد من الشباب، فإن قسماً ليس بقليلٍ منهم يجد بعد فترة من عضويته أن العمل الموجود والنشاط الذي تمارسه تلك المنظمات لا يستهويه، وربما لا تروق له أساليب إدارته، وقد لا يجد نفسه فيه فيغادر.

 وكلما تأزم وضع المنظمات المذكورة ودار الحديث حول تدني مواردها البشرية وقلة الأفراد الناشطين في عملها وفي إدارة دفته، أعيد تشغيل أسطوانة مشروخة غير ذات جدوى، مفادها الاستنجاد بالشباب عموماً والناشطين منهم في ساحات أخرى على وجه الخصوص. ويصل الأمر أحياناً إلى توجيه اللوم الذي قد يبلغ حد التقريع للشباب على عدم انضمامه لهذه المنظمات لإنقاذها من خطر يداهمها، وقد يصل بها حافة الانتهاء والتلاشي.

  السياسيون يتذكرون بحسرة الزخم الذي جرى بداية الألفية الثالثة وما رافقه من اقبال الشباب على الانضمام للجمعيات السياسية، ويأسفون على انفضاض الطاقات الشبابية من حولهم، ثم يبدأ بعضهم في تشغيل الأسطوانة ذاتها.

  ويتكرر في أوساط الجمعيات النسائية اللوم للشابات الناشطات في العمل الاجتماعي التطوعي لعدم انضمامهن للجمعيات النسائية لسد ثغرة ما تعانيه من نقص حاد في الموارد البشرية اللازمة لاستمرارية عملها.

  كذلك يفعل قدامى المهنيين في منظماتهم التي تفتقد هي الأخرى الدماء الشابة مكررين لوم الشباب من المهنة ذاتها على ابتعادهم عن تلك الجمعيات وعدم الانخراط في تحمل مسئولياتها.

 انحسار الموارد البشرية عن منظمات المجتمع المدني الأهلية ليس جديداً، بل تعود بداياته لثمانينيات القرن الماضي. وعلى مدى أربعة عقود لم تتمكن تلك المنظمات على أنواعها من تحقيق نجاح فيما وضعته كل منها من خطط وبرامج لاستقطاب الشباب.

  ولسنا هنا بصدد البحث عن أسباب ذلك الفشل فهي عديدة ومنوعة بعضها ذاتي وبعضها موضوعي. نحن بصدد التنادي للعثور على مخارج أخرى ليس ضمنها بالطبع تشغيل الأسطوانة المشروخة التي تصدح باللوم والتقريع دون التحرك نحو البحث عن مخارج.

  السؤال الذي يطرح نفسه: هل المجموعات الشبابية خارج المنظمات المذكورة مسئولة عن تلك المعضلة وملزمة بعملية الإنقاذ المطلوبة، مما يبرر ما يُمارس عليها من لوم وتقريع؟ وهل انضمام الناشطين من الشباب أمر واجب عليهم؟ الجواب قطعاً هو لا. لا ذنب للشباب هنا وليس مطلوباً منه أن يؤدي دور المنقذ إلا إن اقتنع وشاء وقرّر.

  ذلك الجواب يستمد قطعيته من افتراض ما يعتنقه ويؤمن به العاملون في المنظمات المذكورة من مبادئ وقيم الديمقراطية ومن أسس ومتطلبات حقوق الانسان. وتلك المبادئ والقيم من المتوقع أن العاملين في المنظمات المذكورة قد استوعبوها واستلهموها في تربية الأبناء لبناء شخصيات ذات فكر حر ورأي مستقل، بل ويُفترض أنها نبراسهم في نظرتهم للشباب وموقفهم منه ومن دوره وحقه في الذهاب إلى خياراته.  

  عطفاً على ذلك، وبافتراض أن تربية الأبناء قد تشيدت على غرس القيم والمبادئ والمثل العليا المشار إليها، فلا خوف على الشباب إذاً من خياراتهم. بل لا بد أن يُمنحوا ما يحتاجونه من ثقة ودعم، وأن تُصان حريتهم في الذهاب دون وجل لخياراتهم واختياراتهم من أفكار واتجاهات وأنشطة.

 ولنسأل أنفسنا: هل ما نؤمن به من أفكار ونظريات واتجاهات نحو الحياة والمجتمع هو ما يجب أن يؤمن به أبناؤنا، ألن يتعارض ذلك مع ما غرسناه فيهم من قيم ومبادئ. ثم كيف لنا أن نلوم هذا الشباب ونحن من ننبذ الاكراه أياً كانت أشكاله، ونحن من ندعو لتربية الأبناء على الاستقلالية والاعتماد على النفس وحرية الاختيار.

  اهتمامات الشباب اليوم وطموحاتهم متنوعة ومغايرة، ووفقاً لذلك يحددون خياراتهم واتجاهاتهم في التعامل مع الحياة. وقد وجد الكثيرون من الشباب ضالتهم في العديد من المنظمات الشبابية الموجودة فعلاً والمتنوعة الأهداف.

  على صعيد آخر، تصدح أسطوانة مشروخة أخرى قوامها ما يستمر فيه البعض في منظمات المجتمع المدني الأهلية من جلد للذات بلوم أنفسهم على فشلهم في توريث أفكارهم واتجاهاتهم لأبنائهم. والقول هنا أن الآباء لن يجدوا أبداً أبناءهم نسخاً عنهم في عصر ثورة المعلومات والاتصالات. لن يجدوهم كذلك إلا في حال استهوت الأبناء تلك الأفكار والاتجاهات وأقنعتهم.

  جبران خليل جبران(1883-1931) الشاعر والكاتب والفيلسوف الذي بظننا سبق عصره بنحو مائة عام في إطارما تحدثنا عنه، خاطب الآباء في كتابه الأشهر “النبي” الصادر سنة 1923 قائلاً: “أولادكم ليسوا لكم. أولادكم أبناء الحياة المشتاقة إلى نفسها، بكم يأتون للعالم ولكن ليس منكم. ومع أنهم يعيشون معكم فهم ليسوا ملكاً لكم. يمكنكم أن تمنحوهم محبتكم، ولكن لا يمكنكم أن تغرسوا بذور أفكاركم فيهم، لأن لهم أفكاراً خاصة بهم. وفي مقدوركم أن تصنعوا المساكن لأجسادهم، ولكن نفوسهم لا تقطن مساكنكم. هي تقطن مسكن الغد، الذي لا تستطيعون أن تزوروه ولو في أحلامكم. وإن لكم أن تجاهدوا كي تصيروا مثلهم. ولكنكم عبثاً تحاولون أن تجعلوهم مثلكم، لأن الحياة لا تعود إلى الوراء، ولا تلذ لها الإقامة في منزل الأمس.”

  وبدوره أبدع المأثور الشعبي في التعبير عن الحال ذاتها بالمثل البحريني القديم القائل: “كل وقت ما يستحي من وقته”.