الرفيق جاسم
الرفيق جاسم، ابن الخالة، أقول ابن الخالة لموقف طريف جداً.
في العام 1970، كنتُ في الأردن، حيث الحرب الأهلية بين فصائل حركة التحرير الفلسطينية، في أيلول الشهر الذي استعرت فيه الحرب، وصار الأهل في غليان وخصوصاً كلما رأوا صور قوافل الشهداء، فالأخبار على الدوام في (عاجل)، وكان جاسم أحد مهدئي العائلة، وكان يستعد للذهاب إلى الاتحاد السوفياتي للدراسة، فأوهمهم أنه ذاهب للبحث عني كما كانت جدتي تروي لي بعد رجوعي.
“جاسم يقول هو ذهب ليبحث عنك، وإلى اللحين ما جاء، وأمه بعد يومياً اتصيح واتقول يمكن (جودوه)”.
وبعد أن جاء الرفيق جاسم، قال لي مازحاً، أنا ذهبت ابحث عنك ولم أرك، أين ذهبت؟
“الكُدس”*
في صبيحة يوم سكنت فيه المدافع والقذائف، تسلل أحد المقاتلين إلى حقل صغير وأدخل رأسه في أحد البراميل المركونة في زاوية الحقل حتى أرتوى بعد أن كان يلهث من العطش، وبعد أن سمعت أم صبري صوتاً خرجت لترى من الذي في الحقل، ووقفت على عتبة الدار الترابية ووضعت كفها على جبينها لتحجب بريق الشمس عن عينيها، وقالت: “من اللي هناك”؟، وعندما تحققت أنه يشرب من المياه الوسخة، قالت: “تعا هون اشرب ميات انضيفة (نظيفة)”، وحينما سار في الحقل، “تعا هون…بس تدعسش على الفكوسات صار لي يومين ما جنيتهن، وحينما وصل ورأته بلباس عسكري ويحمل على كتفه بندقية كلاشنكوف، لطمت خذها وهي تقول (بارودة كمان، تعا جوه)، وأدخلته الغرفة المبنية من الطين وأرضها من التراب.
يوجد سريرها، الذي عملته وحدها، وموقد صغير، وسلّة بها فواكه: تقاح، برتقال، عنب، تين، وقرب الموقد صندوق به بصل وبطاطا وطماطم وكوسا وخيار، فقالت له وهي تمد له قلة الماء، “اشرب ميات انضيفه”، وأضافت: “عليّ الطلاق انك مفطرتش” (لم تفطر بعد).
ردّ عليها: صار لي أكثر من يومين ما أكلت يا خالة، وأكثر من عشرين يوماً ما نمت، من اشتباك إلى اشتياك…والسباط، (أي الحذاء)، ما شلحته من رجلي، لاحظت أن في كلامه لهجة عراقية، قالت له، وشو اللي جابك من العراق منشان اتبهدل حالك بها البهدلة”، فقال لها: أنا مش عراقي.
ردت عليه..وإلا من وين؟ قال لها أنا من البحرين.
لطمت خذها وهي نقول بإستغراب بحراني؟ عندكو الخير وجاي اتبهدل حالك، وجاي هان منشان اتجوع وتتبهدل.
رد عليها: جاي من أجل فلسطين
فقالت له “مكلكو بدافعوا منشان الكدٍسُ (القدس) لشو ها الحرب بيناتكو يبني؟
وأضافت…أنتو محبوبين “البحرانية”. “ودي أحضّر مكان اتنام عليه، منشان اتريح…اشلح البارودة خلها هان واشلح السباط منشان تريح اجريك (رجليك) وغسلهن ابميات (مياه) سخنة”.
قامت بعمل سرير، حيث صفت عدداً من صناديق البرتقال والتفاح، وقامت بتغطيتها بعدد من البطانيات العسكرية التي توزعها عليهم مؤسسات رعايا اللاجيئن باستمرار، وهي تتحدث معه عن وضعه: ما أكلتش من بقاله…عاد؟، ردّ عليها وهو يأكل البيض والبطاطا المسلوقة، ما في بقالة ولا دكانه ولا سوق ولا مخبز ولا حتى مسجد، كلهن قصفوهن.
وبعد أن فرغت من إعداد السرير، غطّ في نوم عميق، ولم يستيقظ إلا ظهر اليوم الثاني، كان منهكاً تماماً لأنه لم يجد مكاناً ينام فيه، نهض تعباً فرأى أنها قد أعدت له البيض والبطاطا المسلوقين، والزيت والزعتر والحمص، كان غذاءاً طيباً، شكرها، فقالت له وهي تسكب الحليب الساخن، اشرب، حليبات طريه، هالساع جبتهن من جارتنا أم منيرة.
لقد أنس عادل العيشة مع أم صبري، حيث صار يعمل معها في الحقل، وفي صبيحة يوم نهض مبكراً، وكان الطقس جميلاً لا يشوبه إلآ صوت طلقات رشاش من بعيد، من هنا وهناك. جلس على كرسي قديم مركوناً قرب الدار، وبدأ يتأمل في العصافير والغربان التي تحط فوق الزرع غير مبالية، وكأنها تدرك أن هذه مجرد فزاعات لإخافتها، فصار يضحك لهذا المنظر، يوم رابع قضاه عادل مع هذه (الختيارة) الطيبة وكلما سمع الاشتباكات تتجدد فكرته في كيفية الخلاص والعودة إلى الوطن.
لقد احترقت وثيقة سفره، بينما هو الآن عالق في حرب أهلية، إلى متى سيظل عالقاً في هذه الحرب، ومتى ستنتهي؟
استيقظت أم صبري على صوت انفجار ضخم، وجاءته حاملة الزيت والزعتر والخبز الطري والحليب.
وبادرته….صباح الخير..جيف انت يما؟”، (كيف حالك). ردّ عليها: “صباح النور، غلبتي حالك يمّا”، ردت، مافي غلبة يمّا، أنت جيت من البحرين من غاد منشانا”.
في يوم نهض في الصباح باكراً، فتسلل لملابسه العسكرية وسلاحه وارتدى ملابسه وهرب. هرب لصعوبة الفراق والوداع.
عباس وذاكرة السجن
عرفت فقيدنا عباس في السجن، عرفته عنواناً للتضحية، عنواناً للسخاء، كنا في القلعة، وكان هو في سجن جو، وكنا في بداية الحكم علينا، منعوا عنا الدفاتر والأقلام، وكلما طلبنا من إدارة السجن يردوا علينا لا نستطيع اعطاءكم دفاتر وأقلاماً إلا بأمر من المخابرات، لكن الرفيق عباس كلما سنحت له فرصة المجيء إلى سجن القلعة ، المنامة، يقوم بتهريب الدفاتر والأقلام لنا، كما يأتي محملاً بصندوقين يحويان المربى والجبن، وكثيراً من الأشياء التي كانت في بداية حكمنا ممنوعة.
كان الرفيق عباس طيباً حتى مع الشرطة حيث يقوم دوماً بملاطفتهم، وهو محبوب عندهم، الأمر الذي جعلهم لا يفتشونه أثناء المجيء من سجن جو، ويسمحون له بالمرور دون تفتيش، وأفادنا ذلك في توصيل كل احتياجاتنا، نحن الذين لم نعرفه إلا في السجن فقط لأننا سجنا لأجل الوطن، وعندما وصلنا إلى سجن جو حاول بقدر الإمكان ترتيب مكان لنا، حيث رتب في أي زنزانة نستقر، اتألم له، عندما أراه في كل يوم يأخذ الرسالة التي بعثتها له ابنته لينا ويقوم بقرءاتها مرات حتى يغفو وتبقى الرسالة على صدره، ليغوص في أحلامه. نم بسلام يا رفيقي، لأهلك وذويك ورفاقك الصبر والسلوان.
*”الكدس” تعني القدس بالعامية