ثلاث ليال ونحن نرقص ونعربد في هذا المكان. سمعت رب البيت يسميه مطبخاً. أسمع صوت أمرأة تقول له:
-الفئران تلعب بأعصابي، إن لم تجد لها حلاً، لن أدخل المطبخ.
-حبيبتي. لا تدعي هذه الفئران التافهة تُغير مزاجك، سوف أريك الليلة ماذا أصنع بها.
لم نفعل شيئاً نحن معشر الفئران سوى أننا نمارس حياتنا وطبيعتنا. فمثلا قبل ليلة، عندما أحضرت كيس الذرة ووضعته فوق الطاولة؛ قرضت الكيس وأكلت بضع حبات. إنها لذيذة جدا، لذلك أخبرت أخوتي وأخواتي، لم تمض إلا خمس دقائق، حتى اختفى وكأنه لم يكن، مزق من الكيس، وبقية أثار طحن تلك الحبوب الصفراء. لكن الليئمة ، وأعني زوجته الصلفة المتكبرة، استشاطت غضبا، حينما رأت آثار الهجوم الساحق، كانت غارة ليلية ناجحة، شبعنا واتخمت بطوننا الصغيرة.
المهم هذه غريزة فينا، نشمّ الطعام ونسعى إليه. الله القدير بحكمته زرعها فينا. بعض الأحيان نمارس بعض التمارين التي تبدو عبثية لصنف بني آدم، مثلاً قد أقرض خشبة الباب، وهذا ضروري من أجل شحذ أسناني، وكذلك هو تمرين وفيه متعة كبيرة.
تلك الغبيّة لا تعرف شيئاً عن متعة نشر الخشب أو قضم الفلين الأبيض. في جحري السابق، في البيت القديم، قضمت أسفل باب الغرفة، وبذلك صنعت بوابتي الخاصة بمقاسي، وحين يُغلق الباب، يبقى الأفق الداخلي مفتوحاً أمامي. المُهم، لقد نفذ زوجها تهديده، ربما من خوفه منها. لقد أحضر القطع الخشبية ووضعها أمام الباب، أربع قطع.
تلك الليلة وأنا أضحك مع أخوتي ونحن ننثر حبوب الأرز، في المخزن، أكلنا حتى الشبع ثم تركنا النثار هنا وهناك. أنا وجدت تفاحة قرب الثلاجة، فأتيت عليها، رائحتها نفاذة وطعمها سكري، لقد فتحت شهيتي. نازعتني أختي في بقيتها ولكني لم أعطها شيئاً، غضبت مني وأخذت تدعو عليّ بأن يصطادني الرجل وتخلص مني، أنا الأناني!
ها أنا الآن لاصق في هذه المصيدة الخشبية، وبجنبي سحلية ساذجة، لقد عثر بها الحظ، مثلي تماما. تحذرني أمي من الفخاخ والمصائد؛ دائما تقول لي:
- فأرون، اسمع ياعيني، لاتقرب تلك الأقفاص الحديدية، سوف تجد فيها الجبن وربما العسل ولكن احذر تلك حيلة بني الإنسان.
طيبة أمي ومتفائلة، عاشت وتعيش عوالم قديمة، حينما كنا نسرح ونمرح في الحقول والدكاكين القديمة، مستودعات الحبوب وقاع السفن الخشبية الكبيرة، مؤونة لاتنتهي. ربيع وافر ومزهر بالأفراح والنعم. الحمد لرب السماء في علوّه. لقد غاب عن بال أمي، أن حقد الإنسان تطوّر، إنه الآن يصنع لنا أشرطة لاصقة، أخشاب مثل حقل لاصق. يا لك من مسكينة، لم تفكري بهذه الطرق الخبيثة. ها هو إبنك المدلل قد وقع فيها، وبدعوة مجابة من ابنتك الحمقاء. لم يخطر ببالي أن تنزلق رجلي في هذه القطعة اللامعة، كأنها زجاج وإذا به هلام لزج. لن أنسى كلمات تلك الحقودة وإيغار صدر زوجها علينا نحن البسطاء. اللعين أطاعها في نهاية الأمر وهذا شاهد جريمته النكراء، سحلية فقيرة وأنا الروح المسكينة، كلانا ضحيّة القوة الغاشمة والعبث. أحاول أن أقلب نفسي على الجانب الآخر، دون فائدة، رجلاي عالقتان، ذيلي غطس بالكامل في وحل الفتنة. ألا لعنة الله على من صنعها. هذه جريمة لاتغتفر بحق الحيوانات الصغيرة البريئة، أليس كذلك؟
كنت أخاطب السحليّة، لكنها لم تجبني، لقد لصق بطنها وبقي ذيلها يتحرك كأنه يد ممدودة تلوّح للآخرين. مسكينة، لقد قطّعت نياط قلبي. لو كان الزمن يجري وفق إيقاعه الأزلي، لربما كانت تزحف قربي وحينها أنقض عليها وأبتلعها. هي طعام الآيسين. طبعا هي حلال لنا رغم أني لا أستسيغها، ولكن للضرورة أحكام.
- ماجدوى هذا الكلام ونحن رهينتا بطش ذاك المتهور.
أخيراً نطقت.. الكلمات تخرج حرفاً حرفاً من بوزها الكريه. أشحت بوجهي عنها. يالها من تافهة.
– اسمعي… نحن في خندق واحد، مصيرنا مشترك، لإن نجوت يمكنني إنقاذك، فلنضع خلافاتنا الوجودية في جانب، دعينا نفكر في مخرج.
– أنت السبب، هذه وضعت من أجلك، وأنتم أيها الفئران اللعوبة تستحقون أكثر.
بدأت تهاجمني وتشتمني وتخطىء بحق بني جلدتي، حنقت عليها، حاولت أن أميل قليلاً كي أعضها، لم أتمكن. فعلاً لعينة، بدل أن نُصبّر بعضنا بعضا، تلجأ إلى أسلوب الإنتقاص.
– حقا تستحقين أن تبقي هنا حتى تتعفني مكانك أيتها الوقحة، ألا تري شكلك المُقزز، أتحسبين أنك أفضل مني. أنت قذرة ومتعجرفة.
– يا فأرون.. أيها الأحمق المتبجح، أنت نتن بما فيه الكفاية، لا تغضبني أكثر، فأفضحك.
لقد تدفق الدم في عروقى وانتفخت أوداجي وددت لو أقضمها. التفت إليها وأنا غاضب :
– كفي عن هذه الثرثرة المقيتة، تبادل الاتهامات لن يزيدنا إلا هماً. رغم كونك ضعيفة، وأنت مجرد زاحفة متطفلة، ولكن يجب أن نفكر في الخلاص.
– نحن نزحف برشاقة على الجدران، لا نزعج الناس، نساهم في تنظيف المكان من الحشرات، أما أنتم، حثالة متسكعة، تلتهمون الأخضر واليابس.
– أتمنى لك إقامة دائمة، أيتها الوزغة السخيفة، تتبجحين بفضائل ليست لك. أنتم قوم دجالون، تبيعون الكذب، اعرفي قدرك ثم تكلمي ياحشفة الذل.
لم أتحدث معها،احتقرتها من أعماقي، خبيثة، لاتقل خبثا عن ذلك الأحمق. بدأت أفكر في طريقة خلاص. حاولت القفز، لم تسعفني قوتي، استجمعت قوتي، أردت أن أرفع جسمي، وقعت والتصقت أكثر، أنا الآن ملتصق الظهر، حتى ذيلي لم يسلم. وأخذت أحلم بأخواتي وأخوتي، أمي الحنون، التي لم تعهد هذا التطور الإجرامي في نوايا الإنسان، لم تتحدث يوما عن هذه الحيل والخدع، معذورة، في أيامها كان الإنسان رحيما كما تقول، أما الآن فقد غدا مترفعاً على كائنات الله، يبتكر الجديد لمحاربة أعداء وهميين. أبي الذي لم أره فرّ من بطش جاره، كان يحرق السحالي والفئران ويقذفها في البحر. متجبر.. وحش كاسر. بكيت كثيرا حتى غرقنا، جارتي صارت في لجة من دموعي وأنا أتذكر وأتحسر. في تلك اللحظات المصيرية، رأيت عوالم الإنس في أحطّ صورها، طافت عوالم المخلوقات الدنية في عقلي، كم نحن بسطاء وسادرون في طبيعتنا، تحركنا الغرائز، لو كنا نعقل ربما يتغير الأمر، قد نتفوق على هؤلاء البشر المتغطرسين. لكنها حكمة السماء،لم تشأ أن تلوثنا بالآثام. رق قلبي عليها وهي تغرق أمامي، حبست دموعي كي لا يزداد الأمر سوءاً. أظلم المكان، وهي تتنفس ببطء، لازلت أحلم بالفرج، أملي كبير أن هناك مخرج لا أراه. ونمت ونامت، ربما يئست.
فاضت عيناي وغرقنا مرة أخرى. أحلامي تتطاير مثل حبات قمح ذهبية، وأنا أتقافز وألتقطها وهي تسقط. فجأة، وأنا مبتل، طرت حتى صرت فوق المروحة، وأنا لازلت لاصقاً بها، وتحركت المروحة ببطء ثم جنّت، سقطت فوق وجهي، ضعفت قوة الصمغ، تحرر ذيلي، حركت جسمي، تسحبت قليلا حتى تمكنت من الفرار. اختبأت في جحر بعيد، فعلاً العالم الآن شديد الخطورة. حبائل ومكائد. الفأر العجوز عانقني وهو يؤمّن على كلامي:
– يا بني… احذر فقد غدا عالمنا مخيفاً، إن لم تنال منك مكيدة، متّ بالدخان، أو الماء، حتى الماء يمكن أن يصرعك. انتفضت أوصالي، كلامه لا يطمئن.
– وماذا نفعل، هل نبقى هنا للأبد؟
– لابد من مخرج، بجب علينا الإختباء نهارا، نمتطي الليل بحذر، نشرب بعيداً عن بني البشر، لاتأمن مكرهم، ماؤهم سمّ زعاف.
– صعب علينا أن نلاحق رزقنا ويلاحقونا.
– يابني، سوف يأتي عليهم زمن يخربون زرعهم وضرعهم. يومها تنكشف حقائق الوجود، ويُنتصر إلى الضعفاء مثلنا.
قلت له وقد تذكرت السحلية:
– وددت لو كانت معي تتنفس الحرية.
– من هي؟ هل هناك أحد غيرك؟
فسردتُ عليه القصة، رأيته غارقاً في الصمت وهو يضع رأسه بين ركبتيه.