المنطقة الرمادية بين الحرب والسِلم (1 – 2)

0
55

بقلم: Dimitar Bechev

ترجمة: غريب عوض

        لقد انتقلت روسيا وتُركيا من المواجهة إلى التعاون. ولكن مصالحهُما المُشتركة كانت لها عواقب وخيمة للأكراد في سوريا وتتار القِرم في أُوكرانيا. ويستمر التوتر في ناغورنو – كاراباخ وفي ليبيا، ودعمهما للإستبداد اليميني في غرب البلقان يُقوّض القيم الديمقراطية الليبرالية.

          إن العلاقة بين روسيا وتُركيا مليئة بالغموض. كلا الإمبراطوريتان السابقتان شريكتان ومتنافستان : في الشرق الأوسط، وفي جنوب القوقاز، وفي منطقة البلقان. ومع ذلك، على الرغم من الذكريات التاريخية والإنقسامات الراهِنة، تمكنت موسكو وأنقرة من تحديد المصالح المُتداخلة وإقامة روابط إيجابية مع احتواء الخلافات. وفي أقل من عام، أنتقل الرئيسان فلاديمير بوتين و رجب طيب أردوغان من التعاون الضعيف، من خلال مواجهة مُباشِرة بعد إسقاط طائرة حربية روسية بواسطة طائرة تركية من طراز F-16 في نوفمبر 2015، إلى شراكة نشِطة.

        وفي أعقاب الإنقلاب الفاشل في تُركيا في 15 تموز/يوليو 2016، تجددت العلاقات بين البلدين. موسكو وأنقرة هُما من رُعاة مُحادثات “الأستانا” بشأن سورية، بينما يعمل جيشيهُما جنباً إلى جنب على الأرض. التعاون في الطاقة، يعود إلى تسعينيات القرن الماضي، على قدمٌ وساق مع اكتمال خط أنابيب الغاز الطبيعي TurkStream وتحقيق محطة Akkuyu للطاقة النووية تقدُماً. وتتدفق التجارة بِحُرية ويتدفق السياح الروس على ساحل البحر الأبيض المتوسط في تُركيا كما فعلوا مُنذُ سنوات.

        وفي الوقت نفسه، فإن صواريخ أرض جو الروسية S-400 التي تم تسليمها لأنقرة توتر العلاقات مع الولايات المتحدة. وبعيداً عن الغرب، رفضت الحكومة التركية العقوبات المفروضة على روسيا واختارت المُشاركة بدلاً من ذلك. لقد تحول بوتين وأردوغان إلى عمل مُزدوج في السياسة الدولية، حيثُ يلتقيان بشكل مُتكرر ويتخذان مبادرات دبلوماسية مُشتركة. يُقارن النُقاد الغربيون والمُعارضون الأتراك على حد سواء بين حُكم أردوغان الإستبدادي وقبضة بوتين المُحكمة على السُلطة في روسيا (مع تجاهل عدد من الاختلافات أيضاً).

        ومع ذلك، جاءت الأزمات الأخيرة في ليبيا وإدلب في شمال غرب سوريا وناغورنو كاراباخ بمثابة تذكير بالقضايا التي تُفرق بين تُركيا وروسيا. وعلى الرغم من هذهِ الظروف المُضطرِبة، نجح أُردوغان وبوتين حتى الآن في إدارة الخِلافات وتعظيم المصالح المُشتركة بينهُما. وحسب تعبير الرئيس التُركي، “مثل الفولاذ الساخن الذي يُروى في الماء، فإن علاقتنا الثُنائية قد تم توطيدها وتقويتها مع كل استفزاز فاشل. وبالمثل أشار وزير الخارجية مولود جاويش أُغلو إلى روسيا في عام 2018 على أنها “شريك استراتيجي”.

        كيف وصلنا إلى هُنا؟ ما الذي يُحرِك العلاقات بين أنقرة وموسكو؟ ما هي الآثار المُترتِبة على الغرب؟

الخلفية الدرامية

        عادةً ما يُنظَ إلى العلاقات التركية – الروسية على أنها قصة شخصين أكبر من الحياة. هذا الرأي لهُ ما يُبررهُ بالنظر إلى القوة التي يتمتع بِها بوتين وأردوغان بالإضافة إلى بصمتهما على قرارات تاريخية مثل المُصالحة في تمو/ يوليو 2016. ومع ذلك، فإن هذا التركيز على القادة الحاليين يتجاهل السوابق التاريخية. تحالف الكماليون والبلاشِفة في أوائل عشرينيات القرن الماضي وحافظوا على الروابط خلال فترة ما بين الحربين العالميتين. عادت الحكومات التركية في الستينيات والسبعينيات إلى التعامل مع موسكو، حيثُ تلقت مُساعدات مالية وصناعية على نِطاق واسع. وأنتعشت العلاقات التجارية في أواخر فترة الحرب البارِدة، بفضل عقد الغاز الطبيعي الذي وقعهُ رئيس الوزراء تورغوت أوزال في عام 1984، وحتى فترة التسعينيات.

        بعد نهاية الحرب البارِدة، قليل من الناس تنبا بأن تنبني صداقة بين روسيا وتُركيا. كانت أنقرة تُطالب بالقيادة في آسيا الوسطى وجنوب القوقاز وحتى على المجتمعات الناطِقة بالتُركية والمسلمين داخل الإتحاد الروسي نفسة. كان هذا يتعارض مع طموح موسكو للدفاع عن سلامة الدولة التي تتحداها الحركات الإنفصالية مثل تلك الموجودة في الشيشان وللإحتفاظ بالهيمنة على الإتحاد السوفيتي السابق.

        وضعت تُركيا نفسها كحارس مُتقدم للغرب في آسيا الأوروبية Eurasia، مع مُبادرات مثل قمم رؤساء الدول التركية ومنظمة التعاون الاقتصادي للبحر الأسود (BSEC). ووجهت المؤسسة الأمنية التُركية شكوكاً إلى روسيا بسبب صِلاتها بدول مُعادية مثل اليونان وسوريا وأرمينيا وإيران. في عامي 1997 و 1998، أثار التسليم المُحتمل لِصواريخ S-300 الروسية الصنع إلى القبارِصة اليونانيين تهديدات من قِبل الجيش التُركي بأنهُ سيعترض السُفُن الروسية التي تحمل الأسلِحة.

        ولكن بحلول أواخر التسعينيات، نجحت روسيا وتُركيا في تحسين العلاقات بينهما. في كانون الأول/ديسمبر 1997، وقعت الحكومتان إتفاقية لبناء أنبوب للغاز الطبيعي تحت البحر الأسود، التيار الأزرق المستقبلي. وكانت شركات البناء التُركية تُنفذ بالفعل مشاريع بملايين الدولارات في الإتحاد الروسي، في حين أن ’تجارة الحقائب‘ تستورد كميات كبيرة من المنسوجات والسلع الاستهلاكية الرخيصة من أسطنبول. وأعطى الزخم الإيجابي شكلاً لخطة العمل حول التعاون في آسيا الأوروبية التي تبناها وزيرا الخارجية للبلدين إسماعيل جيم و إيغور إيفانوف في تشرين الثاني/نوفمبر 2001. وفي العقد التالي، بنى بوتين وأردوغان على هذا الإرث. في عام 2004، أصبح بوتين أول رئيس روسي يقوم بزيارة رسمية إلى تُركيا. بعد ست سنوات، بدأ مجلس التعاون الإستراتيجي رفيع المُستوى، وهو هيئة مُشتركة تضمُ الحكومتين، اجتماعات مُنتظمة.

ما الأمر الذي يجمع روسيا وتُركيا مع بعض؟

   للتقارب بين روسيا وتركيا أسباب مُتعدِدة: الترابط الإقتصادي، والثقافة السياسية المُتقاربة، والجغرافيا السياسية، والفضل يعود إلى الغاز الطبيعي، شَهَدَت روسيا (مُصدّرٌ رئيس للغاز الطبيعي) وتركيا (مُستهلك) نظامي الطاقة لديهُما أصبحا مُتشابكين على نحوٍ متزايد. تقليدياً، تستورد تركيا حوالي نصف غازها من روسيا، وهي نسبة آخذة في الإنخفاض في السنوات الأخيرة. بعد إلغاء التأشيرات بين البلدين عام 2011، سرعان ما أصبح الروس أحد أكبر مجموعات السياح إلى البلاد، لم يتفوق عليهم سوى الألمان. يمتلك عشرات الآلاف من المواطنين الروس عقارات على طول سواحل بحر إيجة والبحر الأبيض المُتوسط.

        وتلعب السِمات السياسية المُشتركة دوراً مُهماً في التقريب بين روسيا وتُركيا. كِلا البلدين يشتركان في ثقافة سياسية تُعطي الأولوية لأمن الدولة وسيادتها على الحقوق الفردية. في التسعينيات بداـ الدولتين التعامل مع بعضهما البعض بشأن قضايا حساسة مثل القضية الكُردية والشيشان. وعلى سبيل المٍثال، في أوائل عام 1999، نقض الرئيس بوريس يلتسين ورئيس الوزراء يفغيني بريماكوف مجلس الدوما فيما يتعلق بطلب عبدالله أوجلان للحصول على اللجوء السياسي. سعى زعيم حزب العمال الكردستاني إلى اللجؤ إلى موسكو على إثر طردهِ من سوريا بعد أن هددت تركيا القيام بعمل عسكري.

        بعد ذلك بعام، أعلن رئيس الوزراء بولنت أجاويد أن الحرب الثانية في الشيشان كانت تجارة داخلية لروسيا، بعد لقاء فلاديمير بوتين، الذي كان قد عُيّنَ بالفعل خليفة يلتسين. ولطالما اجتذب حُكم بوتين الرجل القوي، الدفاع عن المصالح الوطنية ضد التعديات الغربية وتحديث المجتمع من أعلى إلى أسفل، النُخب التُركية والمجتمع، مُتجاوزاً الإنقسام العَلماني/الديني. في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، شجعت الفصائل في الجيش والبيروقراطية التركية، التي عارضت الإتحاد الأوروبي، الإصلاحات الليبرالية واستاءت من السياسة الخارجية للولايات المتحدة، وتبنت الاختلاط الأوروبي الأسيوي ودعت إلى التحالف مع روسيا. في الأصل هُم على خِلاف مع أردوغان، في مُنتصف عام 2010، حولوا ولائهم له.

        في موجهة روسيا الصاعِدة، فضلت أنقرة الإستعداد للحرب بدلاً من خوضها. وأثناء حرب 2008 في جورجيا، على سبيل المِثال، أبقت حُلفاءها على مسافة بعيدة، حريصةً على عدم استعداء موسكو. وقَدَرَ صانعي السياسة في أنقرة أنهُ في حالة تطور الوضع، سَتُترك تركيا من قِبل الولايات المتحدة لتدافع عن نفسها. وبعد أن استثمرت أنقرة في القوة البحرية للبحر الأسود، كبديل إقليمي لحلف شمال الأطلسي، أطلقت أنقرة منصة الإستقرار والتعاون في القوقاز، والتي تهدف إلى طمأنة موسكو وإبقاء القوى الغربية على بُعد ذِراع.

        وبالمثل، حتى لو أدانت ضم شبه جزيرة القرم في عام 2014 وأبدت تعاطُفها مع محنة رِفاقها من التتار في شبة الجزيرة، فقد عارضت تُركيا العقوبات الغربية. ومُنذُ ذلك الحين، تسعى أنقرة إلى تحقيق توازن مُعقد بين الغرب وموسكو، مُعتبِرة نفسها قُطباً ثالثاً وليس امتداداً لحلف الأطلسي. ومع الإنتشار العسكري الروسي في سوريا وجنوب القوقاز وخاصة شبه جزيرة القرم، تجد تركيا نفسها مُحاصرة وهَشة. وعلى الرغم من أن أنقرة تُساهم في ’الوجود المُتقدم المُصمم خصيصاً‘ لحلف الناتو في البحر الأسود وتدعم توسيع الإتفاقية لتشمل غرب البلقان وكذلك أوكرانيا وجورجيا، إلا أنها تفعل ذلك إلى حدٌ كبير تحت المُراقبة.

        العامل الأخير هو علاقات تركيا المُتوترة مع الولايات المتحدة والأتحاد الأوروبي، لاسيما بعد مُحاولة الإنقلاب عام 2016، إلى جانب التدخل الروسي في سوريا. تدهورت العلاقات مع الولايات المتحدة وأوروبا وأصبحت الآن مُعاملات إلى حدٌ كبير. ونتيجة لذلك فإن جاذبية روسيا آخذة في الإزدياد. كان أردوغان هو البطل الرئيس في هذهِ القصة. ألقى باللوم على القوى الأجنبية في احتجاجات جيزي Gezi protests (ثورة ملونين من نوعٌ ما فاشِلة)، استاءت من فشل إدارة أوباما في فرض “خطوطها الحمراء” بعد أن استخدم النظام السوري الأسلِحة الكيماوية ضد المدنيين، وصورت حركة فتح الله غولن، المُرتبطة بمحاولة الإنقلاب في 15 تموز/يوليو 2016 على أنها عميلة للولايات المتحدة وإسرائيل.

        فإنهيار عملية السلام الكُردية في صيف عام 2015 وتجدد القتال بين الحكومة وحزب العُمال الكُردستاني زاد في تدهور العلاقات مع الولايات المتحدة. في عام 2014 انضمت الولايات المتحدة إلى الأكراد السوريين، الذين كانوا يُقاتلون تنظيم الدولة الإسلامية. وترى تُركيا في ما يُسمى بقوات سورية الديمقراطية التي تشكلت وحدات حماية الشعب الكُردية جوهرها على أنها وكيل لحزب العمال الكُردستاني. وعلى الرغم من أن لروسيا صِلاتها الخاصة بالأكراد السوريين، وعلى عكس الغرب، لم تُدرِج حزب العمال الكُردستاني أو فروعه كمنظمة إرهابية، فقد أعطت الضوء الأخضر لتوغلات تُركيا في شمال سورية في عامي 2016 و 2018 (عمليتا “درع الفُرات” و”غصن الزيتون”).

        أثبتت تركيا أنها محاور أساسي لروسيا في الشرق الأوسط. تنتقد أنقرة مُحاولة الكرملين الإستفادة من من المكاسب العسكرية في سورية لتأمين اتفاق لتقاسم السُلطة، وتعزيز حُكم الأسد، وضمان مصالح روسيا على المدى الطويل. تُركيا هي جسر لمختلف فصائل المُعارضة المُسلحة وبعض مؤيديها في جميع أنحاء المنطقة. كان المُثلث الروسي التركي الإيراني الذي يرعى مُحادثات الأستانا بشأن سورية أحد أبرز أنجازات موسكو.