قبل سنوات تحاور اثنان من أهم وجوه أوروبا الفكرية والإبداعية، باتا اليوم في ذمة الله. الأول قامة أدبية كبرى تتوجت مسيرته بنيل جائزة نوبل للآداب، والثاني قامة سوسيولوجية مهمة، هما الألماني جونتر جراس والفرنسي بيير بورديو.
وعلى اختلاف حقلي اهتمامهما، جمع بينهما الموقف النقدي الواضح والصريح مما بات يعرف ب«الليبرالية الجديدة»، التي تفرّعت إلى نسخ ونماذج مختلفة في المجتمعات الأوروبية، بعضها وصل حد الشوفينية والعنصرية.
التاريخ يشهد على ما بين فرنسا وألمانيا من حروب. البلدان تقاتلا وسفك أحدهما دماء الآخر، حتى القطرة الأخيرة تقريباً، على نحو ما يعبر جراس، وما زال ممكناً، حتى اليوم، رؤية جراح حربيهما العالميتين والحروب الأخرى العائدة إلى القرن التاسع عشر، رغم كل المحاولات التي بذلها ويبذلها البلدان لتخطي آثار ذلك.
الرجلان اللذان يقفان على أرضية فكرية واحدة، لا يحاولان، في هذه المحاورة أن يعودا إلى التاريخ، وإنما يحاولان تحليل، كل من موقعه ومن مجال عطائه، أزمة أوروبا الراهنة، وإن عادا إلى التاريخ فمن باب استخلاص الدرس والعبرة، ورد ظواهر اليوم إلى مسبباتها، بما في ذلك جذورها التاريخية.
أزمة أوروبا، كما يريان، تكمن في التراجع عن تراث التنوير، الذي بات محاصراً بشركات ووسائط إعلامية متعددة الجنسيات تملك قوة هائلة وتسيطر على كل زاوية إلا من بضعة جيوب محاصرة. وحتى في عالم النشر، تتزايد صعوبة إنتاج كتب نقدية ملحة يوماً بعد يوم، وهذه الجيوب المحاصرة هي نفسها التي اتفق جان زيجلر وروجييه دوبريه، في محاورة شبيهة بينهما، على وصفها بالجزر الصغيرة في محيط استهلاكي هائل الموج.
التنوير يواجه محنة في كل مكان اليوم. الحال في بلداننا العربية والإسلامية شاهد على ذلك، ورغم أن تراثنا التنويري يعد نزراً صغيراً بالقياس للتنوير الأوروبي، إلا أن جهود رواد شجعان على جبهتي الفكر والثقافة من دعاة التجديد الديني والفكري، حققت منجزات على أهمية تاريخية كبرى. لكن الكثير من هذه المنجزات تلاشى، والمخاطر تتهدد ما بقي لها من آثار، أمام الموجات الأصولية والمذهبية وما إليها منفلتة العقال في لحظتنا التاريخية الراهنة.
محنة التنوير الأوروبي على ما يشير جراس وبورديو تشمل، في ما تشمل، تحييد الدولة عن سلطتها في تنظيم المجال الاجتماعي ومسؤوليتها عن المهمشين والمستبعدين من عملية الإنتاج أو الذين لم ينخرطوا فيها بعد. وإذا كنا نعاني في عالمينا العربي والإسلامي من ظلامية مرعبة رأينا تجلياتها في تنظيمات مريعة مثل «داعش» و«القاعدة» والحواضن التي منها خرجت، فإن الرجلين يحذران أوروبا مما يصفانه ب«ظلامية حداثية»، قد تكون الليبرالية الجديدة عنواناً مموهاً لها.
لا يعيد الرجلان اكتشاف العجلة حين يدعوان إلى إصلاح حركة التنوير بمناهج التنوير ذاتها. ومع اختلاف الظروف فإن هذا يصح علينا أيضاً.
والحديث الآن لا يدور حول عولمة كونية واحدة تجتاح العالم، مع أن هذا صحيح من حيث الجوهر، فما زال للرأسمالية مركز وأطراف، وما زالت الهيمنة معقودة للمركز إذا ما عدنا لأطروحة سمير أمين، وإنما أيضاً عن “عولمات” مختلفة، أو في عبارة أخرى نسخ متعددة للعولمة. فهي إذ تجتاح العالم من أقصاه إلى أقصاه، وتبلغ، ولو بوتائر مختلفة، حتى أكثر أطرافه عزلة، فإنها حين تتفاعل مع المكونات الثقافية المحلية في أي مجتمع أو لدى أي أمة تجد نفسها محمولة على تكييف أدائها بما تفرضه خصائص هذه المكونات المحلية.
العلاقة هنا تفاعلية إلى حد كبير، حتى لو لم يكن التفاعل متكافئاً، فمما لا شك فيه أن قوانين التدويل العالمي أقوى بكثير من الخصائص المحلية لأي مجتمع، وبالتالي فإن قدرتها على تكييف المحلي لشروطها أقوى، لكن هذه القدرة ليست كلية، إذ لا يعني ذلك، كما تدل التجربة، عجز المحلي من الخصائص على حمل آليات العولمة على أن “تتكيف” معها، فنكون إزاء ما يجوز وصفه بالهجين، الذي هو ناتج اتحاد وتفاعل أكثر من عنصر. حيث يستحيل، لا في عالم اليوم المترابط، المتشابك، المتداخل، ولا عبر التاريخ كله، الحديث عن ثقافة “صافية”، خالية من التأثر بالثقافات الأخرى، وهذا لا يقلل من “أصالة” أي ثقافة، خاصة حين يجري النظر إلى أن الثقافة هي إرث للبشرية كلها.
قد تحمل مفردة “الهجنة” شحنة من الدلالات السلبية، حين توضع كمقابل للأصالة. لا يخلو الأمر من تعقيدات. ثمة مخاطر الهيمنة الغربية، التي، من خلال ما عُرف بالمركزية الأوروبية، سعت إلى تهميش ثقافات البلدان والشعوب التي تعتبرها “أطرافاً”، لإظهار تفوق مفترض للثقافة الغربية على الثقافات الأخرى التي تعتبرها أقل أهمية . وثمة مخاطر التعصب القومي في الثقافات الواقعة خارج “المركز” الأوروبي، التي تكابر في الإقرار بأن الثقافات هي في حالة تفاعل، لا في حالة تضاد.
نعم، ثمة تواريخ ثقافية مستقلة، على الصعد القومية والوطنية الخاصة بكل شعب أو أمة، يتعين تحريرها من نزعات الشعور بالدونية التي أملاها المركز الغربي عليها، ومن المشاعر الشوفينية التي يمكن أن تدفع للتزمت والتعصب وربما للعنف أيضا.
بعض الدراسات الفكرية الحديثة التي جرى التعارف على وصفها بدراسات ما بعد الكولونيالية، وجهت عنايتها لدراسة تواريخ الثقافات غير الأوروبية، ملاحظة أن التوسع الأوروبي وإخضاع الأمم والشعوب المختلفة خارج أوروبا للهيمنة الاستعمارية سمحا ل”الإغارة” على التقاليد المعرفية للثقافات الأخرى، وفتح المجال لاختبارات قسرية للثقافة الغربية على بيئات غير أوروبية، بل وتدمير التقاليد التي يمكن أن تكون نداً محتملاً للنموذج الغربي في التنمية والتطور الثقافي، الذي يمكن أن يكون منتجاً للجهل، مخاطره جلية في تهديد الجنس البشري وتدمير الطبيعة.