يعد غرامشي أحد أهم القادة الشيوعيين بعد لينين في أوروبا القرن العشرين. كان قائداً للحزب الشيوعي الإيطالي وأصبح رمزاً للنضال ضد الفاشية. بعد محاكمته في 1926، قال المدعي العام: “علينا أن نشل هذا العقل عشرين عاماً”. في السجن الفاشي كان عقل غرامشي أكثر اشعاعاً من أي وقت مضى.
نظرياً، له العديد من المساهمات ولا يمكن حصرها بشكل مبسط وهي تتفاوت في المراحل المختلفة: من الهيمنة، إلى فلسفة البراكسيس، والآيديولوجيا العضوية والمثقف العضوي، والأمير الحديث، وحرب المواقع/حرب المناورة، والكتلة التاريخية، إلخ. شكّلت هذه المساهمات تدخلاً نظرياً وسياسياً في زمن طغت فيه الانتهازية السياسية على الحركة الاشتراكية، وتمثلت نظرياً بالاقتصادوية والحتمية.
أمام مفاهيم جامدة مثل هذه، طرح غرامشي فلسفة البراكسيس (“الإرادة الاجتماعية ضد الحتمية الميكانيكية”، “تشاؤم العقل، تفاؤل الإرادة”). من هنا قام بحياكة مفاهيم سياسية كالقيادة الطبقية وكتلة السلطة، والتوازن والتحالف واللاتوازن الطبقي (القيصرية، الثورة السلبية، إلخ..)، وفي ذلك رأى الحركة السياسية لا كشيء يعتمد على الاقتصاد مباشرة؛ بل علم بحد ذاته. لكن – في ذات الوقت لم يخلُ هذا التدخل من اخطاء نظرية وفلسفية مثل: التاريخانية، والمفهوم المثالي للهيمنة، والتعريف الخاطئ علمياً للفلسفة. ومع ذلك يبقى إرثه مليئاً بالإنجازات النظرية والسياسية التي لا بد من دراستها والدفاع عنها.
من جانب، نجد بأن لمفهوم الهيمنة عند غرامشي عدّة مستويات التي قد تشير إلى الهيمنة الطبقية (بمثل المعنى الذي أعطاه لينين للكلمة) في بعض الأحيان، ولكنها في (دفاتر السجن) تُشير إلى صيغة غريبة من أمرها تجعل من الهيمنة تركيباً ما بين الهيمنة والقوة. المقصود بهذه الفرضية هو أن القوة (أو الجانب القمعي من الدولة) تُشكل لحظة من لحظات الدولة، وفي مثل الوقت تُشكل الهيمنة (أو المجتمع المدني) لحظة القبول الاجتماعي في العلاقة الخاصة التي تجمع الطبقة المسيطرة بالطبقات المسيطرة الأخرى ومعها الخاضعة؛ وهي تتجسد في أجهزة ملموسة معينة يسميها أجهزة الهيمنة (الجهاز التعليمي، والكنيسة، والنقابات، والبرلمان، إلخ). وهذا بدوره يؤدي إلى تركيب ما: الدولة – الهيمنة التي تخلف طابعها على القوة، من حيث أن الدولة – الهيمنة لا تظهر كجهاز قمعي عنيف بل كجهاز مصمم للقبول الاجتماعي.
ما ينقص هذا المفهوم هو الأسس المادية لفهم دور ”أجهزة الهيمنة” هذه، وحسب تعبير آلتوسير: “يا ترى بماذا تعمل أجهزة الهيمنة تلك التي يتحدث عنها غرامشي؟ على الهيمنة نفسها؟”. إضافة إلى ذلك، يصبح مفهوم الهيمنة هنا تكراراً للمثالية الفلسفية الهيغلية، إذ تتبع السببية التمثيلية من حيث كل شيء يحصل كتمظهرات الهيمنة نفسها.
تمثل التاريخانية التي أشاد بها غرامشي شكلاً آخر من مثل النزعة المثالية في الفلسفة، رغم أنها ناتجة عن ردة فعل تجاه التحريفية الانتهازية والميكانيكية للأممية الثانية. هذا ما كان يعنيه غرامشي في (الثورة ضد رأس المال)، إذ كان يُشير إلى الثورة الروسية التي تخالف المنطق الميكانيكي لإنجيل اسمه (رأس المال)؛ فإنها إرادة الجماهير هي التي تخلق الأحداث لا القوانين الميكانيكية في النصوص.
يُعطي غرامشي الماركسية أهمية في براكسيس التاريخ نفسه، ايّ دورها العملي في تشكيل التاريخ؛ وترجع الأسبقية هنا إلى الفعل العملي، والعمل السياسي، والإنخراط في التاريخ، والثورة، بدلاً من “ماركسية الكتب” أو لنقل – إن صحّ التعبير – “الأرستقراطية الماركسية”.
على المادية التاريخية، حسب غرامشي، أن تكون “تاريخية” بينما “المادية” لا تعدو كونها مقولة ميتافيزيقية. إذن، يقوم غرامشي بموازاة مفهوم العلم النظري نفسه بالموضوع الفعلي له. مرة اخرى، يحاول غرامشي أن يناقض هيغل دون أن يبتعد عنه كثيراً؛ أمام المعرفة المطلقة ونهاية التاريخ يطرح غرامشي “التاريخانية المطلقة” التي تجعل من التاريخ بلا جوهر حقيقي يعبر عن لحظاته التاريخية، إنما تاريخ متحرك له لحظات متحدة في راهنيتها التاريخية، ايّ النسبوية التاريخية. من هنا ايضاً نجد مصدر التعريف غير العلمي للفلسفة وعلاقتها بالعلم، إذ الماركسية التي هي فلسفة البراكسيس حسب غرامشي لا يُمكن أن تكون علماً، إذ كل العلوم المعاصرة تعبر عن راهنية التاريخ الرأسمالي، بل إنها العمل اليومي العملي الحقيقي الذي يناقض هذه الراهنية. ولكن كما بيّن لينين أن الحقائق المطلقة هي عبارة عن سلسلة من الحقائق النسبية، ولكنها تبقى مطلقة؛ وهذا ما رفضه غرامشي.
في مثل الوقت، حاول الكثيرون استغلال إرث غرامشي النظري الغني معرفياً لطمس روحه الثورية (إما بفعل التناقضات التي يبرزها نصه النظري، وإما بفعل متعمد لتبرير الانتهازية السياسية). فاحتفظوا بما قاله عن “حرب المواقع”، وهي استراتيجية طويلة المدى تهدف إلى التغيير الاجتماعي عبر الهيمنة المضادة في أجهزة الدولة، وفي مثل الوقت تفادوا كل ما كتبه حول الديموقراطية العمالية القاعدية، ايّ أنهم اظهروه بمظهر برلماني بيروقراطي لا ثوري. في حقيقة الأمر، المفتونون باستراتيجية حرب المواقع عند غرامشي يفهمونها بالطريقة الكاوتسكية. إذ أن كاوتسكي هو أول من فرق ما بين “استراتيجية الاستنزاف” و”استراتيجية الهجوم المفتوح” (وهذا تناص لفظي بين مفكرين ليس إلا، وفي ذلك رأى بأن الزمن تجاوز الثانية لصالح الأولى، ايّ أنه زمن الصراع البرلماني فقط. إذا كانت حرب المواقع، أيّ سلسلة من الصراعات التي هدفها ضمان قيادة أو هيمنة العمال، هي ضرورية عند غرامشي فإن هذا لا يعني بأنها منفصلة عن حرب المناورة؛ وهي الصراع المباشر مع البورجوازية حول السلطة. وكل شيء عند غرامشي يعتمد على كيفية تحويل الأولى إلى الثانية.
إن ثورية غرامشي هي الإرث الحقيقي الذي ينبغي أن نحافظ عليه وندافع عنه.