متابعة لما بدأنا الحديث حوله في مقالنا بالعدد السابق، وإلى ما وصلنا إليه خلاصات يجدر بنا التأمل فيها وقراءتها مجدداً بعيون ورؤى جادة وجديدة، بدون استسهال ومسايرة ما ألفناه من أساليب تقليدية للتعاطي مع مختلف قضايانا، دون التحسب لمخاطر انعكاساتها المجتمعية، وما يمكن أن تخلقه من تعقيدات في المشهد الوطني العام، أو ما يمكن أن تقودنا إليه من مغبة فرض أولويات بعيدة عن سياق ما ارتضيناه من رؤى وأفكار طالما اشتغلنا عليها لفترات، أو عبر القفز بعيداً عن التزاماتنا التي طالما روّجنا لها كثيراً تجاه قضايا محددة، قد يكون بعضها هامشياً، أو لنقل لم يحن أوانها بعد، عبر حجج ومبررات لا تستقيم ورؤيتنا الجامعة التي يفترض أنها تلخص ما نتطلع إليه حكومة وشعبا.
في هذا السياق اجدني محمولاً على مواصلة الحديث حول ضرورات مرحلة ما بعد جائحة كورونا في ظل التحسن المضطرد في الحالة الصحية في البلاد وفي العالم من حولنا بشكل عام، بما تقدّمه المعطيات من نسب تراجع يومي في الحالات وأعداد المصابين وارتفاع في نسب التعافي نتمنى ان تستمر، وذلك ما أشاع حالاً من التفاؤل في أوساط المواطنين والمقيمين، كل ذلك لم يتأت من فراغ وانما بسبب نهج مدروس لعملنا بشكل جماعي لم يقبل التفرد بالقرار من أي جهة كانت، ضمن فريق وطني ابتعد عن العشوائية، وآمن بمبدأ الاختصاص وتوزيع المهمات والأدوار واكتسب كثيرا من الوضوح والشفافية ضمن منهجية واضحة نجزم أنّها محل اجماع تام من قبل المواطنين والمقيمين وليس في ذلك ادنى مزايدة.
إن الحاجة للاستثمار الجدي في ما أنجزناه، مجتمعإ ودولة خلال فترة تعاطينا الناجح حتي الآن مع تداعيات الجائحة بات يفرض بدوره اشتراطات علينا الاستمرار فيها وتطويرها، وليس اعتبارها جزءا من مرحلة انقضت لسنا بحاجة للتعلم منها او العودة اليها، فهي فترة بقدر ما أخذت منا الكثير وكلفتنا الكثير من الوقت والجهود والأموال، إلا إنها فترة علمتنا الكثير ايضاً. فعلى سبيل المثال، ليس مضمونا أن تعود أسعار النفط للارتفاع مجدداً، فتلك سلعة عالمية متداولة، كما أنها سلعة ناضبة وتعتمد أساساً علي مبدأ العرض والطلب، وحتى لو افترضنا ربما ارتفعت مستقبلاً، فلا يجدر بنا تحت أي ظرف أن نستكين لذلك الواقع الذي طالما عايشناه لفترات مختلفة في الماضي، وأضعنا بسببه فرصاً واعدة للتنمية وتنويع قاعدتنا الاقتصادية.
وبالمثل نستطيع أن نعطي الكثير من الأمثلة التي شكلت لدينا، ولدى الكثير من المتابعين والمهمومين مثلنا بقضايا الوطن هاجساً مؤرقاً لم نستطع بكل أسف أن نغيّره، ربما بسبب قصور راسخ ومتأصل في آليات وادوات ونهج تعاطينا الوطني رسمياً وأهلياً، في كيفية إدارة المشهد العام اقتصاديا واجتماعيا وحتى سياسيا أيضا، ويعود أصل ذلك كما ازعم بإستمرار، الى نهج اداري خاطئ يعتقد دائما انه وحده القادر على إدارة دفة الأمور دون الحاجة للآخر، وهذا بحد ذاته أمر مربك بل ومعيق في نهاية المطاف إن شئنا الدقة.. لماذا؟!
الإجابة على ذلك تتسع للكثير من الاجتهادات التي علينا أن نتعلم الإصغاء لها ليس إمعاناً في مناكفة عدمية معيقة، وإنما ذلك ما ترشدنا اليه أبسط نظريات الإدارة الحديثة، وقبل ذلك منطق ومغزى الشراكة في صناعة القرار وهو علم يدرس، وطالما جُرّب ولازال في أكثر الدول تقدّماً وازدهاراً، وهو ليس أمراً معيباً على اية حال..ونستطيع أن نقارب المسألة عبر أمثلة عديدة، قريبة وبعيدة، طالما وجدناها تتكرر وتعاود الظهور مرة بعد أخرى، كلما اعتقدنا مخطئين أنها أصبحت ممارسات عفى عليها الزمن، فلننظر إلى بعض الحقائق والتي لا تخطئها العين المجردة، فبعد أن أشرنا إلى النجاحات التي حققتها الدولة في التعاطي مع جائحة كورونا والتي ميّزت البحرين بين الكثير من دول العالم حتي المتقدمة منها بفضل الإدارة الواعية والحكيمة والنهج التشاركي المدروس من قبل الحكومة الموقرة خلال هذه الأزمة، دعونا نراقب مثالين قريبين كمقاربة بتنا نعايشها منذ سنوات بل ونضج بالشكوي من استمرار التراجعات التي خلقتها والتي تتسبب باستمرار النظرة السلبية لدى الشارع البحريني حيال الأداء الحكومي في بعض جوانبه، الا وهما ملفا البطالة والتعليم على سبيل المثال لا الحصر.
ويكفي أن نستعرض باختصار ما سببته سياسات التوظيف وبرامج تنظيم سوق العمل والأرقام والنسب المعلنة حول سياسات التوظيف من لغط وفوضى في هيكلية سوق العمل البحريني، يزيدها سوءاً إصرار بعض المسؤولين على تلك المغالطات دون التفكير في إعادة النظر في كل ما قيل ويقال في هذا الصدد من كلام رسمي لا نجد له أرضيّة مقبولة لا علمياً ولا حتى نظرياً، بل أضحى يثير تذمراً مستمراً لدى الشارع بمختلف شرائحه حيال هيكلية السوق ونسب توظيف العمالة الوطنية ونوعيّة الوظائف التي تخلقها السوق أو حتى معدلات الأجور، على الأقل بما يتناسب مع ما تطرحه رؤية البحرين2030 حول الاستدامة والعدالة والتنافسيّة وجعل الأفضلية للبحريني في سوق العمل.
ويكفينا أن ندلل على ما نقول بتصريحات سعادة وزير العمل منذ أسبوعين فقط، عندما أعلن عبر الصحافة المحلية عن أنّ الوزارة استطاعت أن توظف اكثر من 14,000 بحريني في الستة شهور المنصرمة من العام الجاري، رغم ظروف وتداعيات جائحة كورونا…لن نحاكم النوايا بل دعونا نحترم الأرقام والعقول وما يقوله واقع السوق!
أما المثال الآخر الذي يحضرني هنا، فهو ملف التعليم والتراجعات الكبيرة التي هي حديث كل مجلس ومنتدى، ليس انطلاقا فقط من رداءة وقلة جودة المناهج التعليمية التي لا تتماشى مع طموحاتنا كدولة ومجتمع، او من استمرار المنهجيّة المتخبطة في سياسات الإبتعاث ونوعية البعثات والتخصصات المتوافرة وموائمتها بحاجات سوق العمل والنهج الاقتصادي والاجتماعي الذي نتطلع له جميعا، علاوة على قلة حيلة وعجز القائمين على سياسسات التعليم العالي والأساسي أيضا، بل من واقع انه لا توجد رؤية واضحة لدى المعنيين بالقرار التعليمي تجاه طموحنا ونظرتنا كمجتمع لمنا نريده من تعليم للحاضر والمستقبل، وما يحمل من تحديّات، وما هي أهدافه وكيف سيتأتى بلوغه بذات السياسات والأدوات والعقول الإدارية والأكاديمية القائمة حاليا، والتي تسببت في هذا الحجم المهول من التراجعات المخيفة التي نجدها اليوم في كل مرافق ومناحي حياتنا واقتصادنا ومجتمعنا، في وقت يجب أن نكون فيه متأهبين فعلاً لا قولاً، للانطلاق نحو المستقبل بما فيه من معارف وتكنولوجيا تجاوزت حتى مرحلة الذكاء الاصطناعي فيما نحن لازلنا نراوح في ذات المكان الذي وجدنا فيه انفسنا منذ اكثر من ثلاثين سنة على الأقل!
تلك أمثلة وددت أن ادلل بها لعلّها تكون محل حوارات وسجالات مأمولة لا تتوقف لتقود بلادنا ومجتمعنا الطامح لبلوغ المستقبل بكل ثبات وثقة، لنتحاور حول قضايانا المختلفة بكل صراحة ووضوح ونحن نتهيأ للإنطلاق نحو ما ستفرضه متطلبات مرحلة ما بعد جائحة كورونا من استحقاقات قادمة إلينا بسرعة أكبر مما نتوقع والتي تفرض علينا الاستعداد لها متسلحين بوحدتنا الوطنية وبنهج حضاري وعلمي يؤهلنا لبناء دولة عصرية ناهضة.