نعيمة في مهب أنوثة متناثرة

0
90

كان العرب في جاهليتهم يهيلون التراب على البنات أحياء، حتى يثقل عليهن فيمُتن، وسميت هذه العملية بـ”الوأد”، الذي أراح ذكور القبيلة من العار المرتقب الذي ستجلبه عليهم إناثهم فيما بعد، وفي أي وقت، طالما هن على قيد الحياة! ويروى أن أصل هذا الموضوع عن قيس بن عاصم المنقري، وهو أحد سادات قريش، الذي سبيت زوجته، واختارت ألا تعود لزوجها وتظل مع سابيها. فأقسم المنقري أن يقتل أي بنت ستولد له لهذا السبب، ثم تحوّل الأمر إلى عادة ظلت لفترة، حتى جاء الدين ليمنع وينهى عن هذا الفعل الشنيع.

هل انتهت حكاية وأد الإناث بعد الإسلام؟ وهل لم تكن موجود قبل المنقري أصلاً؟ لا شك أن في الأمر بحثاً طويلاً يعيدنا إلى البدايات؛ لخروج آدم من الجنة بإيعاز من حواء، ومساعدة من “الحية”، وحديث التفاحة: رمز الإغواء الذي نعرف، ثم الكثير من الأخطاء البشرية التي تقف الأنثى وراءها، دون الحاجة إلى سند قوي للإثبات، إذ يكفي ذكر النوع لفتح المجال التطوعي للإفتاء، والتأكيد على ما من شأنه الإعلاء من شأن الذكر، ونقص هذا المعدل عند الأنثى.

ورغم كل التشريعات والقوانين الحضرية التي تدفع إلى تساوي الحقوق والواجبات، يبقى العرف المجتمعي والعادات البائدة المسيطرين على الوضع في معظم المجتمعات، حسب قابلية السيطرة على ذلك، ولم يُعرف تفسير منطقي للتفرقة بين الجنسين، يعرض ميزات الذكر وعيوب الأنثى، اللذين خلقا لاستمرارية نوعهما على الأرض، إلا للأسباب البيولوجية المؤدية إلى المتغيرات الأخرى؛ الفكرية، والنفسية، والاجتماعية، وحسابات العقل، والعاطفة، والموازنة بينهما.

ولا بد أنها مادة ثرّية للكتابة والفنون، كما قدمها عرض “امرأة في الظلام” المونودرامي، عبر “نعيمة”، التي قد تصادف شخصيتها كثيراً في مجتمعاتنا الشرقية، الأنثى الناجحة، والجادة في عملها، المعتدة بنفسها كثيراً، والتي تردد وتؤكد على معنى القوة المرتكز على منصبها الوظيفي عالي المستوى. لكن كل هذا الكيان يضعف من اهتمام وكلام رقيق من أحدهم؛ تخنع له، تحبه، ثم تتزوجه، مع تصريحها بأنه كان يصغرها في العمر. لم يحدد النص عدد السنوات الفارقة بينهما، للإقرار بأنها مهما كانت قليلة، فإنها غير مغتفرة للزوجة التي ترضى بهذه الزيجة، التي غالباً ما توصم بالشك في مصلحة أو ميزة سيتسلمها الزوج نتيجة “تضحيته” بالزواج من امرأة تكبره في العمر، حتى لو كانت بينهما أعظم قصة حب، فلن تصدَّق، لأن المجتمع سيبدأ في العد التنازلي حتى تفرغ مصلحتهما، فتنتهي العلاقة التي ستفسر نهايتها ببساطة: إنها تكبره في العمر!

والعرض يبدأ من بعد هذا الحدث؛ نعيمة المضطربة في وحدتها، وانتظارها لرجلها الذي خان أولاً، ثم تزوج لاحقاً، دون أن يفكر في مشاعر شريكته. وهنا توجد قراءتان: النص لإبراهيم بحر، حين جعل عدم الإنجاب غامضاً بين الطرفين، مع رضا الزوج، وطمأنته لنعيمة بأنه لا يهتم بالموضوع، وبين الرؤية الإخراجية لحسين عبدعلي، الذي جعل بطلته تلد طفلاً ميتاً، ثم تبعته بإجهاض متكرر، رغم المحاولات، مع موقف الزوج ذاته، وهذا التفسير يحسب لصالح العمل، الذي برر الفعل للشخصية، ولم يدع المسألة معلقة. ونفذ المخرج رؤيته البصرية على امتداد مريح للنظر، عبر حبل غسيل بعرض الخشبة، في فهم واعٍ لاستخدام الفضاء المسرحي؛ بضع ملابس معلقة، وطشت للغسيل، تقضي الممثلة سودابة خليفة جل وقت العرض بين الحبل وبينه، في رواية تفاصيل حياتها المحدودة بين بيت والدها وبيت زوجها، وعند الاثنين ذاقت الأمرّين، ولم تستطع تحويل مذاق حياتها إلى غير إحساس المرارة المستمر. ورمى المخرج علاماته في استخدام العباءة الخليجية للسيدات، وأيضاً في تداخل محدود لبعض الجمل باللهجة المحلية، الأمر الذي حدد منطقة العرض، رغم عمومية القضية.

يطرح العرض أيضاً أكثر من مفهوم مجتمعي خاص بالإناث، مثل الاضطرار للطلاق عند تعذر العيش المشترك، وفكرة المطلقة “الخاطئة”، والمتهمة على طول الخط بأن سمعتها ساءت بناء على وضعها الجديد، وفكرة القدرة على تقبل الخيانة المتكررة، وتحملها له، في مقابل عدم تقبل الزواج الثاني، برغم أن المفهوم المجرد يعني أن يهب الرجل نفسه وجسده وعاطفته لامرأتين أو أكثر، وهذا ما يعني ازدواجية الفهم، بعيداً عن منطق القبول والتصديق بالشكل الشرعي في هذه الحالة.

ويرتكز العرض على الدخول في سيكولوجية الأنثى، من حيث الاستجابة عاطفياً للين الكلام، حتى وإن كان الخيار غير مناسب، أو الاضطرار للقبول به تحت ضغط الخوف والقلق من الوحدة “سأبقى وحيدة.. لا زوج، لا أبناء، لا أهل..” كما تقول البطلة حين هجرها زوجها لأخرى، وهو نفس الخطأ المتكرر، الذي مهما سمعت الأنثى وشاهدت أو عايشت تجارب قريبة، تظل في ظن أنها “الاستثناء”، مهما كانت تبدو ناضجة سناً أو خبرة. فطبيعتها العاطفية، التي جبلت عليها، تدعوها للاستجابة متى ما شعرت بذلك، إلا في حال إعمال العقل، وهو لا يبدو في حالة توازن إن قاربته الحاجة العاطفية لوجود رجل في حياتها. لذا يبدأ الخطأ من الاختيار؛ الخطأ أولاً.

كما أن تشريح شخصية نعيمة أيضاً يبرر لها هذا الجوع العاطفي الذي لم تذقه في بيت بخيل المشاعر، لأب نوخذة، يقسو على بحارته، كما على ابنته الوحيدة، بلا سبب واضح إلا كونها أنثى، لن تكون امتداداً لاسمه، تتغلف بالاهتمام في الوظيفة، والتركيز في الترقي فيها حتى تميل إلى من لامس مشاعرها بكلام لم تعتده، غير متكافئ في السن، أو المركز الاجتماعي، أو غير ذلك! لا يهم، طالما أنه الشخص المنتظر. ثم تأتي النهاية الدراماتيكية المتوقعة، وأيضاً ردة فعل نعيمة، المضطربة وغير المتوازنة بكيفية التصرف. فمن الناحية النفسية، لا وجود لداعمين مقربين يعززون من ثقتها بنفسها في محنتها، ولا للوظيفة التي كانت تتشدق بأهميتها، ومنها استمدت تماسكها، حتى وإن كانت لفترة محدودة، إضافة إلى حاجتها العاطفية لزوجها، الذي أعاد إليها توازنها وثقتها بنفسها كأنثى. فكيف يفلت كل شيء من يدها بسهولة هكذا؟ الوظيفة، والزوج، وعقبة الإنجاب، وتحمل كلام الناس، والظنون، وتحمل نفسها.. كيف تتحمل الحياة بلا كيان مكمل؟

عبر عرض “امرأة في الظلام” عن كون الممثلة هي الموضوع الرئيسي، وأن أي اكسسوار يستخدم هو جزء مكمل للشخصية، هكذا بلا زيادة ولا نقصان، الهم الذي تحمله ولا تستطيع التنفيس عنه، تخرجه عبر معاملة قطع غسيلها بعنف وقوة في الفرك والعصر والنشر، والادعاء أنها قوية، مستقلة، ولا تبالي بالوحدة، رغم أنها لا تكف عن غسيل الملابس طول الوقت، وربما يكون في هذا الشكل تضادّ مع طبيعة الشخصية المستقلة -رغم ألا تعارض في الواقع بين الفعلين- لكنه تعبير حي عن الأفعال التي تروى وتنفذ عبر هذه التقنية، حتى قطرات الماء المنسلة من الملابس المبلولة لم يفت على الإخراج استغلالها عبر تصوير مشهد الولادة المؤثر بآهات الأم، ومعاناتها، في توظيف جيد للموقف، عدا إجادة الممثلة استخدام نبرة الصوت المناسبة للتعبير عن القوة، والضعف، والاضطراب، والخوف من الوحدة، ومن الآخرين الشامتين. ولا يفوت المتفرج إدراك صفة المكابرة في نعيمة، التي ترتفع حين تتذكر ذاتها، وتهبط بحدة حين تستوعب أنها باتت وحيدة، وربما خطر في ذهنها الفرق بينها كأم مكلومة، لم تهنأ بالأمومة سوى لحظات، عن تلك التي لم ينتفخ بطنها يوماً، كما في النص الأصلي، وبين الحالتين وجع كبير، تقلق منه تلك التي تتوق للأمومة، وتراقب ساعتها البيولوجية، خشية أن يأتي الوقت الذي سيستحيل أن يتحقق هذا الحلم.

ولأنه ليست كل الموسيقى الحية على المسرح فاعلة ومؤثرة، لابد من الإشارة والإشادة إلى إتاحة الفرصة للمتلقي في هذا العرض للاستمتاع بحوار آلتي البيانو والتشيلو، مع سرد البطلة التي لا تبرح قصصها نفس المكان، بتفاصيل متشعبة، استطاع التأليف المخصوص إظهار تناغم شديد الانسجام مع حالتها النفسية التي قد لا تعبر عنها لفظياً، في التعامل مع بقية الإكسسوار التي من ضمنها المعطف الرجالي المنشور فوق حبل الغسيل، وهي تخاطبه، أو تتشابك معه، أو أن يقوم المعطف بتعنيفها لأنها تفتش فيه فتجد الرسائل الغرامية من أنثى ما، فتتخبط الأسئلة داخل نفسها. هذا هو من أحببت؟ هل تغير؟ أم أن الوقت كشف شخصيته الحقيقية؟ ولا لوم على نعيمة، فالأنثى لا تعيَّر بضعف مخلوق بشكل أصيل في طينتها الأساسية، هذا الضعف الذي يستسلم أو يصدق هو جزء هام من راحة البشرية، ذلك لأنها عاكسة للطيبة، الاطمئنان، والسلام. والبطلة، بقدر ما كانت ضحية لقسوة أب، وجحود زوج، هي مسئولة أيضاً عما صارت إليه، حيث لم تحارب أو تقاوم حتى تعيد سكينتها لنفسها، بل إنها تبرر لنفسها أنها قوية، وتستطيع الصفح، بالقدر الذي يجعلها تتصل بزوجها وتخبره أنها تسامحه وتغفر له ما تقدم من ذنب، فقط لتعيده إلى دائرتها، فيرفض هو بطبيعة الحال، لأنها امرأة “متوفرة”، يعرف أنه يستطيع الرجوع إليها في أي وقت شاء، وسترحب به. هذه “نعيمة” الخاصة بكثيرات في مجتمعاتنا، ولازالت هناك المزيد منها في أماكن وبقع أخرى؛ يئدهن المجتمع، ويوارين الثرى على أنفسهن وهن لازلن على قيد الحياة. لعل “امرأة في الظلام” توقد شمعة لأخريات.

لمشاهدة العمل كاملاً:

طاقم العمل: تأليف: إبراهيم بحر/ إعداد وإخراج: حسين عبدعلي/ سودابة خليفة/ سينوغرافيا: حسين عبدعلي، محمود الصفار/ تأليف موسيقي وبيانو: المرباطي/ تشيلو: حامد سيف