“ستتحطم رؤوس عديدة، ولكن ذات يوم ستنهار الجدران”[1].
يطرح أحد مقالات كتاب “هلكوني” في جزئه الثاني أسئلة في غاية الأهمية: “ماذا لو دخل الطبَّ مثلًا شخصٌ غشاش لا علم لديه؟، كيف نأمنه على صحة أبنائنا وبناتنا وأهالينا؟ ماذا لو دخل الهندسةَ المدنيةَ غشاشٌ؟ كيف نأمنه على مشروعاتنا وجسورنا وبيوتنا؟ ماذا نعمل لمن أدخلته الشهادة المزورة نتيجة للغش إلى أحد مصارفنا؟ كيف نأمنه على أموال الناس؟”. لعلّ هذه الأسئلة الهامة وتنويعاتها المختلفة هي التي حدتْ بمثقفين عضويين -إذا ما استعرنا مصطلح غرامشي Gramsci الشهير- على رأسهم الدكتور موافق الرويلي لخوض حرب شرسة ضد الفساد الثقافي في بلداننا الخليجية، الذي لا يقل خطورة بطبيعة الحال عن غيره من “الفسادات” السياسية والاقتصادية والاجتماعية لو كان قومي يعلمون. نظر الرويلي وأقرانه إلى الثقافة نظرة واقعية باعتبارها مرآة عاكسة للوضع السياسي والاجتماعي العام، مُنَحِّين -ولو مؤقتًا – تلك النظرة الرومانسية للثقافة، التي ترى أنها قادرة على إصلاح ما تفسده السياسة، والتي يبدو أنها نظرة ستبقى حبيسة كتب وأفكار المفكرين والفلاسفة، دون أن يُسمح لها بالتنفس في الهواء الطلق، فــ”الثقافة لم تمنع يوما أحدًا من أن يكون وغدًا” كما يخبرنا صادقًا الفيلسوف الفرنسي لوك فيري.Luc Ferry
سأعترف أولا أنني وصلتُ متأخرًا، وأنني لم أقترب من جهود موافق الرويلي الحثيثة في محاربة الشهادات المزورة والوهمية وغير المعترف بها إلا في السنوات الأخيرة التي صار فيها صديقي في تويتر، فكان حسابه ووسمه “هلكوني” أشبه بشاي الصباح الذي أرشفه قبل أن أنطلق إلى عملي. ومع ذلك، ورغم متابعتي لعشرات الوقائع التي فضح فيها زيف هذه الشهادات وتزويرها خلال هذه السنوات، والحروب التويترية التي شنّها ضده مزيّفون و”متدكترون” وبائعو كراتين وهم، إلا أنني اكتشفت بعد مطالعتي هذا الكتاب أن ذلك كله لم يكن إلا القمة الظاهرة من جبل الجليد الطافي، وأنه فاتني الكثير من جهود الرويلي التي سرَدَها في مقدمته، منذ قراءته لكتاب “مرض الشهادات“Diploma Disease لرونالد دور Ronald Dore في مطلع ثمانينيات القرن الماضي عندما كان طالبَ دراسات عُليا، ومرورًا بعمله في قطاع الموارد البشرية في أحد البنوك السعودية واصطدامه بشهادات من جامعات ذات أسماء غريبة يطلب أصحابها إضافتها إلى سيرهم الذاتية، ثم قيادته بعد ذلك حراكًا مجتمعيًا في مجلس الشورى السعودي لاستصدار قانون للحماية من هذه الشهادات الوهمية والحد من تغلغلها في مفاصل المجتمع، وليس انتهاء بحروبه شبه اليومية على تويتر لفضح هؤلاء المزورين وبائعي الوهم. كل هذا العمل الدؤوب المضني الذي هَدَف من خلاله إلى رفع مستوى الوعي بخطورة هذه الشهادات على الوطن والمجتمع والفرد، كان غائبًا معظمه عني، ليأتي هذا الكتاب فيخبرني به ولسان حاله قول الشاعر: “علمتَ شيئا، وغابت عنك أشياء”.
على أنه خير للمرء أن يصل متأخرًا، من أنْ لا يصل أبدا. وأستطيع اليوم الزعم أن الوعي بخطورة هذه الآفة المجتمعية قد نما وتطور ولم يعد هو نفسه قبل عشر سنوات مثلًا. هذا الوعي ومحاولات توسيعه هو ما حدا بالرويلي لجمع المقالات العديدة التي تناولت هذه الظاهرة المَرَضية المستشرية في ثقافتنا العربية في كتاب واحد، نحن الآن بصدد جزئه الثاني. إن ميزة هذه المقالات، عدا توثيقها لهذه الجرائم الثقافية، أنها تقدم صورة أشمل عن هذه الظاهرة في مناطق مختلفة من خليجنا العربي الواحد. إن مقالًا واحدًا من عينة “لصوص بدرجة دكتوراه” كافٍ لفتح أعيننا على خطورة هذه الظاهرة، فما بالنا ببقية المقالات الأخرى. في هذا المقال المنشور في جريدة الأيام البحرينية (عدد الثلاثاء 31 يوليو 2018) يخبرنا خليل يوسف أن القضية ليست وليدة اليوم، وأنها ليست ظاهرة عربية فقط. إذْ يذكّرنا بأن صحيفة سبوكسمان ريفيو Spokesman-Review نشرت في أغسطس 2009 قائمة بأسماء ما يقارب عشرة آلاف شخص وضعتهم وزارة العدل الأمريكية في قائمتها السوداء نظرًا لشرائهم شهادات دراسية مزورة من متجر للشهادات في العاصمة واشنطن، وسنعرف من تتبع هذه القائمة أن 180 شخصًا من هؤلاء كانوا من الخليج، وكان هذا “الدكان” يبيع الشهادات المزورة بمبالغ تتراوح بين مئات وألوف من الدولارات بحسب نوع الشهادة، حيث أن تكلفة الحصول على شهادة الدكتوراه مثلًا بلغت 8000 دولار أمريكي. وقد لفَتَ نظر الكاتب البحريني في تلك الفضيحة أن معظم الشهادات المزورة كانت في مجالات حساسة ومهمة تتعلق بالطب والقانون والاقتصاد والتنمية والهندسة، وهو ما يعيدني إلى الأسئلة التي طُرِحتْ في بداية هذه المقدمة. ثم يقفز إلى فضيحة أخرى حدثت عام 2015 بعد أن نشرت صحيفة نيويورك تايمز The New York Times الأمريكية في مايو من ذلك العام تقريرًا عن شهادات وهمية لـ3142 شخصًا من دول الخليج، تصدرتها الإمارات بــ 1217 شهادة، ثم السعودية بــــ 1198 شهادة، ثم قطر بــ 289، والكويت بـــ 287، وعُمان بــــ 81 شهادة، والبحرين بــــ 70 شهادة. وما يلبث أن ينتقل إلى حادثة أخرى هي كارثة بكل المقاييس أُعلن عنها في الكويت عام 2016، حيث نُشِرتْ اعترافاتُ مَنْ لُقِّب بـ”امبراطور الشهادات المزورة”، الذي اعترف أنه استخرج لوحده نحو 600 شهادة ثانوية عامة، وأن بعضًا ممن حصلوا عليها بالتزوير استطاعوا إكمال الدراسة الجامعية في الخارج، وحصلوا على شهادات عليا، وهو الأمر الذي اعتبره البعض شهادات باطلة لأن أساسها باطل! ثم يذكّرنا بقصة أخرى أثيرت في السعودية قبل سنوات وأثارت جدلًا كبيرًا بعد الكشف عن “جامعات افتراضية” تعتمد “نظام التعليم عن بعد” حصل منها كثيرون على شهادات وهمية، وأُعلن حينها عن اكتشاف 2700 شهادة مزورة، كما أُعلِن في عام 2013 عن ضبط معمل في منطقة القصيم لصناعة الشهادات الوهمية عثر فيه على أكثر من 16 ألف شهادة مزورة لجامعات ومعاهد محلية وأجنبية بعضها كان معدًا للتوزيع، وفي عام 2014 كُشف عن وجود أكثر من 7000 من حاملي الشهادات العليا المزورة بينهم أكاديميون وأطباء ومهندسون ومثقفون ومسؤولون ورجال أعمال.
تخيلوا أن كل هذه الكوارث نطالعها في مقال واحد فقط، فكيف بنا إذا قرأنا عن الـــ 1250 شهادة مزورة في عُمان، حسب مقال حميد السعيدي (مقال “مجرمون بشهادات مزورة”، صحيفة الرؤية العمانية، عدد 28 يناير 2018) ، أو الـــ 5768 شهادة في الكويت التي حصل عليها أصحابها دون إجازة دراسية كما يروي الكاتب مرزوق الحربي في الأنباء الكويتية (عدد 27 يوليو 2018)، أو عن “دكاكين الشهادات” من بعض الدول العربية التي أغرقت دول الخليج وتسببت حسب مقال حمد العصيدان في الرأي الكويتية (عدد 22 فبراير 2018) في إغلاق جامعة دلمون البحرينية، أو عن عشرات الوقائع غيرها التي يزخر بها كتاب “هلكوني“.
وبعد، فأظن أننا في الخليج، وفي ظل هذا اللاكتراث بأهمية العلم لشديدِ الأسفِ والحزن، واللاوعي بخطورة التزوير والغش في التعليم، سنحتاج إلى سنوات ضوئية حتى نخرج من هذا النفق. لأننا – وا أسفاه – غير آبهين بحكمة هامة وردت أيضًا في أحد مقالات هذا الكتاب: “من يعتقد أن التعليم مكلف فعليه أن يجرب الجهل فسيجده مكلفا أكثر”. وحتى يأتي اليوم الذي نستعيد فيه وعينا فنحن في أمس الحاجة إلى جهود الرويلي ورفاقه ممن يبذلون وقتهم وجهدهم وأعصابهم لتنقية الجو من هذا الغبار القاتم، أولئك الذين آمنوا أن توالي ضربات الفأس على الصخرة الصلدة لا بد أن يؤدي في النهاية إلى فلقها، لذا فإننا نقول لهم: أنتم الآن شجرتنا الصامدة التي لا يحق لها أن تنحني للعواصف، لأن ثمة من يتكئ عليها. سيلومكم الجميع. سيئو النية سيتهمونكم بالتشهير وبأنكم تتدخلون في أمور لا تعنيكم وهم لا يعلمون أن أمثالكم لم يُؤتَوْا موهبة الصمت أمام الكذب والتزييف، أما حسنو النية فسيقولون إنكم تنفخون في قربة مثقوبة، وإن جهودكم ستذهب سُدى، وسيذكرونكم بالبيت الشعري الشهير: “كناطح صخرةٍ يومًا ليوهنها / فلم يُضِرْها وأوهى قرنه الوعل”. وهؤلاء سنقول لهم إن قرن الوعل أقوى من أن ينكسر، وسنذكّرهم بما قاله كزانتزاكيس Kazantzakis ذات يوم: “سنضرب الجدران برؤوسنا، ثم نعود لضربها. ستتحطم رؤوس عديدة، ولكن ذات يوم ستنهار الجدران”.
[1] تقديم كتبه الكاتب للجزء الثاني من كتاب “هلكوني” للكاتب السعودي موافق الرويلي, قيد النشر.