حكايات وذكريات

0
43

عباس السخاطة

صار معروفاً في منطقة النعيم باسم: “عباس التحرير”، أو “عباس السخاطه”*.

هاتان الكنيتان التصقتا به بصورة ظريفة، بل غاية في الظرافة. كان في السبعينات من العمر، عانى من عيب خلقي في رجله اليسرى، سبّب له ركبة وقدم مثنيتان، يخفق نصف جسمه، ويضع يده على ركبته أثناء المشي، لكن هذا لم يثنه عن العمل في غسيل السيارات، كما أن عباس لديه دكان “يترزق” منه، السجائر وعلب الكبريت والخضار والفحم، والماء المقطر (البيلر)، كما أنه يبيع الكحول المحلي (الوطني)، هكذا يسمى، ويباع في جالونات، ويقوم بتعبئته في قوارير “فيمتو” فارغة، كما يعبئ أيضاً الكيروسين، ولأن النساء يأتين إليه لشراء الكيروسين، يقال إنه أعطى يوماً لإمرأة  قارورة كحول معتقداً أنها قارورة ماء (بيلر)، فقامت المرأة ووبخته بعنف وجمعت عليه أبناء المنطقة، أعتذر منها وهو ثمل، الأمر الذي جعلها تتمادى في توبيخه.

يخرج عباس من الصباح باكراً ، بعد أن يستمع إلى الأخبار من “صوت العرب” من القاهرة التي يذيعها المذيع المخضرم أحمد سعيد بصوته الجهوري. يخرج حاملاً (السطل) * يتدلى وسط ذراعه، لكي يستطيع لف سيجارته (العمايدي) **، وكثيراً ما يقف إذا رأى أحداً يبشره بالأخبار، وخصوصاً أخبار الجزائر، حرب جبهة التحرير الوطني الجزائرية مع جيش الاحتلال الفرنسي، وحين يستمع إلى الأخبار يتحيّن وصول أخبار الجزائر، فإذا صادف أحداً يسرد له أخبار الجزائر بصوت عالٍ فرح بالخبر، الذي استمع إليه يومياً: (اليوم جبهة التحرير شلختهم وقتلوا اثنين منهم”، ويقصد اثنين من الجنود الفرنسيين، وهو يصفق ويلف رأسه يميناً وشمالاً ويهتف: (تحيا جبهة التحرير، تعيش جبهة التحرير).

وحين تصادفه شرطة النجدة تهمّ بالقبض عليه، ومن ثم يطلقون سراحه وبعد وصوله إلى المنطقة، يتحلق حوله الصبية، “وفي كل مرة، يقول، يسألوني عن جبهة التحرير وأقول ليهم أنا ويش يوديني الجزائر”.

أحياناً يلقى القبض عليه وهو ثمل، يقول لهم: “والله العظيم (السخاطة)”، فيردّ  آمر الدورية (النجدة) عليه: “أي سخاطه يا عباس…يبين شارب بُطل (قارورة)”

عادة يكون آمر الدورية من نفس المنطقة، أو من ضواحيها، ويعرف أهلها، ويعرف متى يتسامح معهم، وخصوصاً في حالة مثل عباس، الكبير في السن فيكتفي بالتوبيخ.

المحرق وأسواق “التنكسيرية”* المفروشة

كنت في عمر أحب فيه الإطلاع، رغم أنني كنت ساذجاً. كنت أحب البحث لمعرفة البعيد، لمعرفة كيف نحصل على ما يأتينا، وكنت من الناس الآخرين، الذين يتساءلون الناس كيف يُستغلون ولماذا يتألمون….الخ.

كان لديّ شوق ورغبة جامحة أن أعرف المحرق، الجزيرة التي يفصلها عن العاصمة المنامة جسراً فقيراً مقارنة بجسور اليوم الضخمة. كنت انتظر يوم الجمعة، نهاية كل أسبوع بفارغ الصبر، لكي أذهب إلى المحرق، عابراً الجسر، عن طريق الباص (البست)، وهو باص يمتد بداخله كرسيان متقابلان. تصطف هذه الباصات في المنامة مقابل سينما القصيبي (اللولو)، وفي المحرق في محطة قرب سينما المحرق تسمى محطة (البستان)، ولا يسير الباص إلا إذا امتلأ بالركاب. يقف صاحب الباص وينادي بأعلى صوته، إذا كان في محطة المنامة: “محرق..محرق..محرق”، وإذا كان في محطة المحرق: “منامة.. منامة..منامة”. أذكر أنه في محطة باصات المحرق يوجد بائع على عربة صغيرة يجلس على كرسي، يبيع  الفول السوداني المحمص والسجائر، مقابل الزقاق الذي يؤدي إلى السينما. وكنت أذهب إلى المحرق في الصباح الباكر لكي أرجع إلى البيت بسرعة، لكي لا يسألني خالي: لماذا تأخرت؟…أين كنت؟، كنا نخاف خالنا.

أول ما أنزل من الباص وتطأ رجلي أرض المحرق أكاد أطير من الفرح، لا أعرف لماذا كل هذا الفرح، أعتقدت نفسي مسافراً ووصلت تواً، أبتهج حينما يركب الباص على الجسر، أتذكر وكأني لا أريد شيئاً يفوتني، أنظر إلى السقف، وفي كل حين أبدل الكرسي، يتوقف الباص في منتصف الجسر وذلك لينزل بعض العمال الذين يعملون في شركة (Slip way)، وهي شركة متخصصة في خدمات السفن الكبرى، صيانتها وطليها، حين أصل أتوجه مسرعاً نحو صاحب العربة وأشتري (سنبل)، ثم أتوجه نحو سوق (الكَراشية*) ومعظم الباعة فيه من أصول إيرانية، يبيعون البقوليات والزيوت والحبوب والبحريات المجففة.

يستهويني مجيْ السفن الإيرانية الكبيرة، حيث ترسو بعيداً وتأتي القوارب الصغيرة، لتنقل البضائع، ويأتون بها إلى الساحل ومن ثم يفترشون بضائعهم على هذا الساحل من الجهة الجنوبية، محملين بأنواع من الأواني والبقوليات والأسماك والروبيان المجفف والتحف الإيرانية، وحتى بالفواكه المجففة، والسمن والزيوت والليمون العماني المجفف والتمر الهندي والهيل والدارسين وأنواع البهارات الهندية المخلوطة بخلطات إيرانية، وكذلك بالدجاج والأجبان الصلبة. وكثيرا من التجار المحرقييين يتعاملون بالجملة، والتوصية للأسماك الكبيرة المملحة والمجففة.

أتذكر أن الكثير من الرجال وحتى النساء يأتون  ليشتروا ذلك، وذلك لكمياته الكثيرة والرخيصة جداً، حيث يأتي أولئك التجار من فارس ومعهم السجاد الإيراني الفاخر المشهور بجودته.

وأنا انظر لهذا المشهد اشمّ رائحة الأسماك المجففة، يجلبونها في أكياس، بملابس فقيراة جداً (شورت وزنجفرة) T.Shert، حفاة لا ينتعلون أي شيء.

ولم أكن أتجوّل في كل ربوع المحرق خوفاً من الضياع، ولكني في كل مرة أذهب إلى منطقة، مثلاً ذهبت لأرى مناطق إعداد الحلوى البحريني (حلوى شويطر الشهيرة في البحرين)، رأيت الدكاكين الفقيرة التي لا يزال بعضها موجوداً، دكان صغير يعلق إعلان البيبسي كولا، الإعلان المشهور طوله طول رجل، وبناؤه من (السجل والجص).

فكلما مرت على بالي هذه الذكريات، أذهب للمحرق.

اعتقد أني عشت أحلى الذكريات، خصوصاً عند مجيء (التنكسيرية) ببضائعهم التي يتهافت عليها صغار التجار أصحاب المتاجر، بعضهم يستلم بضاعته مثل أصحاب السفن والقلافين، الذين يوصون على (الهيل والودج والصل).

*(السخاطه) ما تبقى في الجالون أثناء تعبئة القوارير.

**(العمايدي) التبغ الذي يلفه في ورق ويلصقه بلسانه.

***التنكسيرية: جماعة من أهل  فارس