في مرافعة دفاع السيد سينار غوستاف فلوبير مؤلف رواية “مدام بوفاري” أمام محكمة جنح باريس اختصر دفاعه بهذه الكلمات:”الدعوة إلى الفضيلة ببشاعة الرذائل، فالكاتب قدّم للمحاكمة عن تلك الرواية، ووجهت له جريمتى الإساءة إلى الأخلاق العامة والدينية والمواضعات الحميدة في صور شهوانية ممتزجة بالأشياء المقدسة” وكان ذلك في العام 1857حيث كانت حرية التعبير والرأي مقيدة بموجب قانون العقوبات الصادر في العام 1819 أيام حكم الإمبراطور نابليون بونابرت.
غوستاف فلوبيرأنجز هذا العمل العظيم بعد دراسة جادة للمجتمع الذي يعيش فيه، ومجتمعات أخرى زارها كإيطاليا، مصر، فلسطين وآسيا الصغرى (تركيا)، ليعود بحصيلة علمية وثقافية وأدبية كبيرة، ومن أجل ذلك عكف على دراسة الشخوص المراد تمثيلهم بشكل واقعي يؤدي الغرض الذي من أجله ألّف هذه الرواية العظيمة، وهي أول عمل له.
تدور أحداث الرواية حول مدام بوفاري (إيما) زوجة الطبيب شارل بوفاري التي تبحث عن السعادة في أضغاث أحلام تراودها خارج إطار الزوجية حيث تجد اللذة والنشوة اعتقاداً منها أنها حطمت سجنها لتسير في دروب الرذيلة والغرائز الفاسدة لتصوّرها بأن الحياة تسير برتابة مملة مع ذلك الزوج الهزأة حسب تعبير العام السيد (ايرنست بينار) في مرافعة الإتهام، ذلك الزوج الذي كان بدوره يعيش خارج إطار الواقع من خلال تصرفاته وأفعاله الساذجة على الرغم من حبه الجارف لها وتصديقه كل أكاذيبها وتبريره لكل أفعالها ودفاعه عن تصرفاتها وتلبية جميع متطلباتها.
وهذا ما حدا بها إلى الإفراط في هذه السلوكيات الماجنة الشاذة، حيث كانت من البراعة لدرجة من أنها لم تترك أثراً يكشف عن تلك السلوكيات إلا بعد انتحارها متسممة لتضع حداً لكافة الخيانات والحقارات والأطماع العديدة التي كانت تضنيها كما يقول غوستاف فلوبير، حيت كانت الأيام بالنسبة لها مملة، متشابهة لاتتغير ولا تأتي بأي شيء مختلف أو جديد، فأهملت الموسيقى وانصرفت عن القراءة، وكان همّها يتوق لتلك المجتمعات الراقية التي تهفو إليها متنقلة من حلم إلى حلم، وكما يقول الكاتب (إن مرارة الحياة بأسرها كانت تخالط طعامها، وكانت لا تفتأ تسائل نفسها: أيلازمها هذا البؤس أبد السنين ؟)
يصف غوستاف فلوبير مشاعر الزوج بوفاري في حضرة زوجته: (كان يجد في كل مساء أثاثاً مرناً وامرأة في زينة مرهفة ساحرة، نضرة الرائحة حتى أنه لا يعلم من أين تأتي هذه الرائحة ولا ما إذا كانت المرأة هي التي تعطر القميص).
كل هذا الحب العميق والعبادة للزوجة لم يشفع لذلك الزوج المخدوع خيانات زوجته له وبأساليب عديدة دون أن يطرأ له أي إحساس بتلك الألاعيب الخبيثة لتلك الزوجة الفاجرة، فالحب أعمى كما يقولون، ولكن الكاتب أبدع في تصوير هذه الحالات من الخيانات ولأولئك الأزواج السذج، فهذه المرأة الشهوانية ذات الغرائز المتفجرة تنتهك كل الأعراف الأخلاقية وتركض جرياً وراء لذاتها دونما اعتبار لأي عرف أو قانون أو أخلاق أو دين لتصبح حالة شاذة في مجتمع محافظ، وليس هو الجو الذي يمكنها أن تتألف معه بطبعها القلق لتعثر في الزنا هروباً من تلك الرتابة الزوجية المملة كما كانت تتصور حلاً لمشاكلها مع ذلك الزوج المغفل.
الى أين يا ترى تقودها تلك المسلكيات المشينة؟ سؤال أجاب عليه الراوي ببراعة العارف النابه المجرب، ولكن تلك الإجابة غير العادية في إنهاء السرد القصصي، حيث يفرد فصلاً طويلاً للإجابة عن هذا السؤال لكل من بطلي الرواية أيما وشارل بوفاري، فأحلام إيما تبخرت على صخرة عشيقيها رودولف وليون ديبوي اللذين تخليا عنها بعد أن أغوياها واستخدماها كاللعبة بعد أن حوّلوا حبها لهم إلى انحلال لتعيش حالة إذلال وهوان وخيبة أمل وبدلاً من السعادة لم تجد سوى المرارة. وهذه نتيجة حتميّة للمرأة التي تنظر للسعادة في غير منزلها، مما يتسبب لها من متاعب ومحن وألآم.
وحتى عندما ماتت لم يكلف عشاقها عناء النظر الي ما آلت اليه بسببهما، اذ كان رودولف، الذي أمضى سحابة يومه في الضرب في الغابة للتسلية، ينام في هدوء بقصره، كما كان ليون ينام أيضا هناك كما يقول الكاتب، فأي أوغاد هؤلاء حيث ركلاها بأرجلهم بعد أن قضيا على مستقبلها ومستقبل عائلتها.
ألم تكن الرتابة والملل حتى مع من أعتقدت بأنها ستمتلك السعادة معهم قد آلمت بمدام بوفاري؟؛ الجواب بالإيجاب ولكن بعد فوات الأوان، حيث تلطخ شرفها ودنست روحها لتصاب بنكسات مميتة مرة تلو أخرى ليصبح الزنا عذاباً وأسفاً وندماً ولكن بعد الخراب الذي جلبته لنفسها ولعائلتها.
تصوير فلوبير لموت إيما فيه رسالة بليغة حتى أن الاديب ذائع الصيت لامارتين عاتب الكاتب ولامه على الصفحات الأخيرة في الرواية إذ قال (إنك آلمتني وحملتني على ان أحسّ بالألم فعلاً، فالتفكير غير مناسب مع الجريمة، وقد خلقت موتاً بشعاً مخيفاً، ولا شكّ أن المرأة التي تدنس سرير الزوجية يجب أن تنتظر تكفيراً، ولكن هذا التكفير بشع، فهو عذاب لم ير مثله. ولقد سرت بعيدا وأنزلت الألم بأعصابي، وهذه القوة في الوصف التي استخدمتها في اللحظات الأخيرة في الموت قد تركت في نفسي ألما لايوصف)، كما جاء في مذكرة دفاع السيد سينار غوستاف فلوبير.
ولكن بعد كل الذي حدث هل تتحمل مدام بوفاري وحدها كل المسؤولية أم ان ما قام به كل من رودولف وليون ديبوي عشيقيها من غواية سببا في هذه المأساة؟
عدم التركيز من قبل الكاتب أمر أدعى إلى إن الرواية أراد بها الكاتب أن يركز على الحالة التي تنتج تحديداً عن الخيانة الزوجية ومعادلة العلاقة بين حصول تلك الخيانات وردات الفعل الناتجة عنها لدى الطرف الآخر في العلاقة الزوجية وصدى ذلك عليه، وعلى هذا الأساس كان التركيز، فالغرض كان تربوياً وتحذيريا لكل من تسوّل له نفسه المضي على منوال إيما والنتائج التي تترتب عن هذا الدرب المحفوف بالمخاطر.
ولكن هل لنا أن نلقي الضوء على الصفحات الأخيرة من تلك الرواية التي اشتكى منها ذلك الاديب المرموق لامارتين حتى نتعرف على سبب تلك الشكوى. هنا أقتبس ما سطره غوستاف فلوبير: “ونهض القسيس لكي يأخذ الصليب. وعندئذ مدت رقبتها كمن به ظمأ والصقت شفتيها فوق جسم – الرجل الاله -، ووضعت فوقه، بكل قوتها المولية، أكبر قبلة حب أعطتها في حياتها. ثم ردد القسيس “رحمتك يا الله” وصلاة الاستغفار، وغمس أصبعه الأيمن في الزيت، وابتدأت المسحات الأخيرة: أولاً على عينيها اللتين طالما تطلعتا إلى المتع الأرضية، ثم فوق أنفها المولع بالنسمات الفاترة والروائح الغرامية، ثم فوق فمها الذي كان مفتوحاً للكذب والذي كان يئن من التكبر ويصيح من الشهوة، ثم فوق اليدين اللتين كانتا تتلذذان باللمسات العذبة، وأخيراً فوق سطح قدميها اللتين كانتا فيما مضى بالغتي السرعة في الجري لإشباع رغباتها واللتين لن تعودا تسيران الآن”.
وهنا أتوقف عند هذه البلاغة الجميلة لوصف كل عضو من أعضاء الجسم ودوره في بلوغ الفضيلة أو الرذيلة ومدى توظيف ذلك في سياق السرد لإيصال الفكرة والهدف والمعنى من فلسفة الراوي في كتابة النص.
بعد كل ذلك ألا تقع مثل هذه الاحداث في مجتمعاتنا؟ ألم تقاسي عوائل من مثل هذه الأمور؟ ألم تهدم زيجات نتيجة لطيش من زوج أو زوجة؟
أترك الإجابة لكم، فالرواية قد أجابت على الكثير من تلك الأسئلة، وما بقي إلا أن نقول بأن القيمة الأدبية لهذه الرواية لم تقف عند حدود الحدث الذي مضى عليه أكثر من مائة وستين عاما، بل في العبر التي أولاها اهتماماً، فالعمل الادبي والفني جميل وعظيم، ولا يمكن إلا وأن نساير دفاع السيد سينار عندما قال في صدر مرافعته وكررها في ختامها: هل قراءة مثل هذا الكتاب توحي بحب الرذيلة أم توحي ببشاعة الرذيلة؟ وهل هذا التكفير البشع عن الخطيئة لا يدفع نحو الفضيلة؟