الكثير من الفرح التافه

0
72

بين ضجيج الحياة وصمت الجنائز، بين سكون الأيام الرتيبة ونحيب الملكومين بالفقْد.. وسط مفارقات العالم الحادة.. الصوت المريع الذي يرتجف ويهزني في العمق لينهار كتفي على صدري.. رأسي وهو أشبه بكرة هرمة بين ركبتي سرب النبضات وهو ينتحب فيّ أو يحلق شجياً كحزن مؤجل.. يبكيني الأبطال الغامضون الذين يموتون ولا تظهر أسماؤهم في الصفحة الأولى من الجريدة.. تبكيني نبرة الندم الخائنة في الأفراح المتأخرة.. النكهة السيريالية في حساء السجين السياسي.. 

 أخال أن علاقتنا بالبكاء تبدأ من بكاء عابر وتؤول إلى بكاء لفرط كتمان البكاء، وكأنما البكاء يكبر فينا كعضلة حية تتغذى بالذكريات الأليمة.. فكلما لاح حزنٌ جديد تداعت كل الأحزان السابقة واستنهضته! وكأننا نعيش من بؤس الذاكرة ما يجعلنا نموت كل يوم للحفاظ على حياتنا. وهكذا البكاء الطويل لا يكشط الحزن إنما يغيّر إيقاع ذكراه.

 لطالما كتمت دموعي.. من ثم أدركت أنها عملية مرهقة تنستفذ الكثير من العناية النفسية؛ وأن الحزن يمكنه أن يمنينا بأملٍ فادح.. أو بفرح تافه كما يقول الشاعر السوري هاني نديم “سيدفعك الحزن لارتكاب الكثير من الفرح التافه”.. هذا الإنكار الذي  لا يستطيع إلا أن ينهمر بكاءً بل ويضاعفه ويجعلك أكثر حساسية.. تبكيك أشياء صغيرة.. تبكيك أشياء غير مبررة .. يبكيك اللطف كما تبكيك القسوة.. يبكيك الجمال الآسر ويبكيك تراكم القبح!  أستذكر الآن على نحوٍ شعري أنني كنت أبكي بغزارة وأنا أتلمس وجنة طفلة صغيرة لأنني كنت أكتم دموعي أمام مقطع فيديو لشهيد تفتت لحمه وضرج دمه قارعة الطريق.. 

للشعراء أيضاً طريقتهم في البكاء.. يقول الشاعر العراقي الجميل عبدالعظيم فنجان “الشعر عملة نادرة؛ كالدموع النظيفة” أجدني أركن إلى هذه العبارة.. ‏ربما لأن كل حزنٍ نبتلع دمعه.. يتحوّل إلى حشرجة مزمنة.. يعذبها الصمت ولا تقوى الكلام؟ كيف إذا كان البكاء من فم مبلل لم يستطع إخماد بركان الحزن الصاعد للحنجرة؟ إذا كانت التنهيدة التي تعقبه زفرة مريحة أشبه بهدنة يليها نضالٌ محتوم؟ 

صورة حزينة من أرشيف الذاكرة مع أسرتي؛ نغالب النعاس أمام التلفاز ومقدمة مسلسل “نهاية رجل شجاع” بظلها الشجي تتردد إلى أسماعنا:

“ياروح لا تحزني 

يا قلب ضلك هني 

زوار جينا على الدني

العمر بحر ونهار.. “

الروائي حنا مينه وهو يهندم انفعالات الممثل السوري أيمن زيدان من قوة وجبروت “مفيد الوحش” إلى ساقه المبتورة وحطام كرسيه المتحرك وجثته الهامدة..صوت أمي يسيل من ماء عينيها وهي تقرأ دعاء كُميل بن زياد “ولأبكيّن عليك بكاء الفاقدين”.. التناوب اللغوي المتأرجح بين الرقة والغضب في ديوان عماد فؤاد “عشر طرق للتكيل بجثة”.. مرثية الجواهري “ناجيت قبرك” وقصيدة بلقيس لنزار قباني.. الفراغ الذي تكتبه رشا عمران بامتلاء.. قصيدة “أشياء لا علاقة لها بالوحدة” لرشا القاسم.. ظلال الرجل السيء لرياض الصالح حسين.. ميلنا إلى إحياء الذكريات القديمة وتقديس الماضي، والرغبة الجامحة في غمر الروح في حمام من الحنين حين يجزم أمل دنقل بأنها “أشياء لا تُشترى” ولكننا نقرأها الآن بـ “قلبٍ منكس”…

أظننا بحاجة ملحة للبكاء بشكل مطوّل..  نعم نحن بحاجة للبكاء على حزننا الرصين أمام جنائز الأوطان وفقداننا لإنسانيتنا. شعور الفقدان هو البكاء الذي لا نستطيع تجاوزه. وبما أن الحياة سلسلة من الفقْد غالباً لن تجف دموعنا! مرعبٌ أن تخاف من أن يكسرك القلب الذي تخاف عليه من الكسر.. كم هي شنيعة الهزيمة بصوت الماغوط 

“من ملأ حنجرتي بالدموع

وركبي بالثلوج

وجبيني بالكدمات

وغرفتي بالأشباح؟” 

وبصوت الجواهري 

“أنا يا شعر وإياك سواء في العذا… 

أنا مما بك أبكيك وتبكيني لما بي”..