سكّان الطابق الأرضي.. فقط!

0
123

 “إن الواقع كابوس لا يطاق. انظروا من حولكم، ماذا تجدون؟ حروباً، ودماراً، وويلات، وأحقاداً، واضطهادات، والموت لنا بالمرصاد. لقد خلقنا لكي نكون خالدين، ومع ذلك نموت. الأمر مخيف، ولا يمكن أن يحمل محمل الجد”.

 يوجين يونسكو (1909-1994)

مزج مخرج ومعدّ عرض “سكان الطابق الأرضي” هاشم العلوي نصين مسرحيين هما “لعبة القتل” -أو لعبة الموت- ليوجين يونسكو، و”صندوق الرمل” لإدوارد ألبي. مازج المخرج بينهما لمحتواهما المتقارب في فكرة الموت، والعدمية، والدمار للجنس البشري الذي يعبث ببعضه البعض. ورغم تنوع أساليب الكاتبين الفنية في الكتابة، إلا أن الميل نحو الكتابة العبثية واللا معقولة قد أخذ جانباً كبيراً من النصوص التي انتشرت في فترة ما بعد الحرب العالمية، وآثارها التي جعلت من التشاؤم، والإحباط، وانعدام الإيمان بسلوك الإنسان تجاه الآخر، وغيرها من الأفكار غير العابئة بسيرورة الوقت وتجدد الظروف والمجتمعات. ومن المهم ذكر أن الحرب كانت مفصلاً تاريخياً فارقاً لدى أدباء هذه المرحلة عامة، في طرح أسئلة وجودية وكبيرة إزاء الزج بملايين من البشر إلى فوهة الموت العبثية دون أن يكون لهم دور أو جرم مرتكب يحيلهم على هذا المصير، إلا مصالح عدد محدود من المجانين السياسيين.

وتدور أحداث “لعبة الموت” حول الوباء الخبيث الذي يحصد الأرواح تباعاً، بعبثية مطلقة، تجعل من انتشار الجثث في كل مكان، وبتزايد سريع، الثيمة الأساسية، بحيث لا يجد الحفارون مكاناً لدفن هذا العدد الكبير المتنامي. أما إدوارد ألبي، فكتب في مسرحيته “صندوق الرمل” ذات الفصل الواحد(1)، الذي يجسد ألم الجدة في احتمال معاملة ابنتها وزوجها، وإهمالهما لها، رغم تضحيتها بتربية ابنتها وحيدة بعد وفاة الزوج وهي ماتزال في سن مبكرة، ويكون ملاك الموت حاضراً على الخشبة في هيئة شاب رياضي، حتى يقوم بمهمته في آخر النص بشكل سلس، وهادئ، وبقبول من الجدة التي يبدو أنها كانت مستعدة لهذا الحدث، فتنام بوداعة في صندوق الرمل.

بين النصين، يخرج عرض “سكان الطابق الأرضي” الذي يتوه فيه الزمان والمكان المستخلص، كما فعل يونسكو وألبي، إمعاناً في شعور العدمية والخواء الذي يملأ الكون، وسينتهي إليه، حسب وجهة نظرهما التشاؤمية، وحيث “الموت القادم لا محالة، مهما امتد بالإنسان العمر.. فهو خلق ليموت”. ومن الثيمة المشتركة بينهما، يتوضح للمتلقي هدف العلوي من ابتكار نص مقتطع من النصين الأصليين، حيث الروح الواحدة المشتركة، وفكرة الموت التي تدور حول الفرد طول الوقت. لكن هذا المزج بين تحضير نصين مهمين، يتعرضان لشكل مسرحي مقارب من أجل إيجاد صورة مشتركة، كان بحاجة إلى وظيفة الدراماتورج القادر على نقل العرض إلى مرحلة ثانية، وسيطة، بين وجهة نظر المخرج إلى استيعاب الجمهور، إضافة إلى السيطرة على كل العناصر التي قد لا يدرك المخرج، وهو المتحكم الأول والأخير في هذا العمل تحديداً، أنها قد تفلت منه بسبب أن الفكرة تكون مكتملة داخل ذهنه، ولكنها مبتورة في التنفيذ بالنسبة للمتلقي في العموم، خصوصاً إذا ما اقترن هذا بمحدودية الخبرة والتجربة العملية التي تشبع كل عنصر على حده، وبحساب منطقي وعملي، وسيبدو عسيراً كذلك، حول من يستطيع التوفيق بين الإعداد والإخراج والسينوغرافيا كما في “السكان”، إلا إن كان ضليعاً في المجال، وقطع شوطاً طويلاً ومتمكناً، وشغوفاً أيضاً. فالعمل المسرحي يحتاج إلى دقة في العناية بالتفاصيل، كما يحتاج إلى الوعي بالرؤية ما وراء النص.

وابتكر المخرج طاقمه التمثيلي المكون من ممثلين ذكرين وممثلتين أنثيين (إبراهيم البيراوي/أحمد سعيد/ريم ونوس/نوف سبت) المستوحى في الغالب من “قالب صندوق الرمل”، من حيث التشكيل الجندري للممثلين. وقد راوح الممثلون، الذين كانوا أقوى عناصر عرض “السكان”، بين الأداء المتمكن من ناحية، وبين محدودية النص الذي تجاوز الفكرة الرئيسية، في سخرية الكاتبين من فكرة الموت، إلى التعامل مع الفكرة نفسها بسطحية، من خلال اقتباس جمل حوارية وربطهما في جديلة واحدة، وهذا ما جعل الفعل على الخشبة في شكلين: إما أفعال غير مقرونة بالقول، وبالعكس، أو مجسد بشكل تفصيلي يحجب الخيال، كما في الناس الذين قيل إنهم سيذهبون إلى القمر:

رجل 2: (بعد صمت) لو صح، للزم الأمر سلماً طويلاً, أطول بكثير من سلم الإطفاء، وتكون رأسه إلى الأسفل، لأنه يبدو أن القمر موجود في الأسفل. فهو في الجانب الآخر ما دمنا نراه من كل جانب.

رجل 3: إنها مخاطرة. كم يوماً سيستغرق الصعود بالسلالم؟

رجل 2: ستكون هناك محطات للاستراحة، محلات للوقوف على السلالم.

المرأة 1: ( تأتي من الخلف تضحك بدلال مبالغ فيه) هل تتصورون الدوار الذي سيصيبهم، سواء كان الرأس إلى الأسفل أو الأعلى؟ فالأمر لا يختلف بالنسبة للدوار.

المرأة 2: (تأتي من الخلف أيضاً) لو حدث ذلك لماتوا.. فسيتعرضون لرياح وخوف هائل. سيموتون لو تحقق ذلك، سيموتون.

يؤدي الممثلون هذا المشهد بكل التفاصيل التي من الممكن أن تحمل جانباً جميلاً من الخيال، في مسرح متسع مفتوح لتصورات شتى، قطعها التنفيذ غير المتقن. ورغم عدم التطابق المتوقع، والناتج عن فكرة المزج، وإظهار الفعل اليومي الإنساني المفرغ من المشاعر، والخواء الداخلي الذي يظهر في التناقض بين الفعل وردة الفعل، يتبين أن الأداء التمثيلي هو أقوى عناصر العرض المسرحي هنا، إلا أن الممثلين وقعوا في عشوائية الحركة غير المحسوبة، لن تبدو شبيهة بشخصيات يونسكو القلقة، والتي لا تواري انفعالاتها حتى تبدو كأنها شخوص في أحلام، ويبدو كأن هناك خللاً في الحوار كما الفعل، وتلك هي سمات العبثيين، وشكل اللا معقول الذي ظهر في وقت وسبب ما. لكن حتى إذا كان الأمر كذلك، سيهتم المتلقي: لم يأتي للمسرح لمشاهدة عرض “عبثي”؟

وبينما يحاول العرض تبرير المعنى المضمن حول رمزية الطابق الأرضي، المرتبطة بالمستوى الاجتماعي –على الأغلب- وكما جاء على لسان الرجل 2 “.. ومع ذلك، فأنا أفضل الطوابق العليا.. يطلون من مكان أكثر رفعة، وتمتد نظرتهم إلى مدى أوسع من سكان الطوابق السفلى”. لكن ثمة تبريراً أن هذا ليس بصحيح، لأن الرجل الآخر يقول إنه إذا كان “المنزل قائماً على منحدر صخري. وإذا كان سكان الطوابق العليا يطلون من نوافذهم، أو كواتهم، أو فتحاتهم على جانب المنحدر الصخري, فإن الطوابق العليا يمكن أن تتحول إلى كهوف. وأما الآخرون، فسيتمتعون بالنظر كاملاً. وبهذا تكون نظرة القاطنين أسفل أعلى وأوسع مدى”. فيما تبدو أنها الإشارة الوحيدة الدالة لعنوان العرض، الذي جامع بين نصين، ولم يظهر بجديد مُرضٍ يذكر.

على مستوى السينوغرافيا، قامت الإضاءة بتحولات مضنية من أجل الانتقال بالمشاهد والتحولات التي تفسر بشكل واضح -كما ذكر سلفاً-، أو تمعن في الإظلام أو النقلات اللونية السريعة وغير ذات المعاني المتفق عليها مسرحياً، ورافق الشكل الأزياء الموحدة التي تسلط عليها الإضاءة، فتزيدها عتمة، وهو اختيار رمزي موفق لإيصال فكرة تجسيد نوعية الناس الذين يعيشون في الأدوار السفلى، كما كانت مناسبة لشكل الكتلة الكاملة للممثلين، حين يتم تشكيل الكادرات على طول الخط الأمامي للخشبة، والتي عبّرت عن التيه في اكتساح الأشياء المادية على البشرية، وغلبتها عليها. وانتهى عرض “سكان الطابق الأرضي” على غلبة صوت نهام في فن الفجري “الخليجي”، بين نصين مدمجين عالميين!

فإذا كانت غاية العرض هو إدهاش الجمهور من عدم فهم العرض وجدواه، كما كانت بدايات العبث عند مؤسسيه، يكون قد نجح في ذلك، وتفوق بشدة على أن يأتي “مارتن أسلن” معاصر ويوضح الملامح الجديدة لهذا التوجه. وإن لم تكن هي الغاية الحقيقية من وراء ذلك، فمراجعة أخرى للعمل ستكون لازمة، حتى يعود بصيغة وشكل جديدين.

“أيها المواطنون.. أيها الأجانب.. لا تحاولوا الفرار”!

رابط عرض سكان الطابق الأرضي

طاقم العرض: إعداد وإخراج وسينوغرافيا: هاشم العلوي/ تمثيل ريم ونوس، إبراهيم البيراوي، أحمد سعيد، نوف سبت.