فكرة سمجة

0
36

منذ عقود والأنظمة السياسية العربية تردد فكرة سمجة، تتمثل في التالي: الشعوب العربية لا زالت قاصرة أو غير مهيئة بعد لتطبيق النظام الديمقراطي. وما يعزز هذه الفكرة القاصرة، المآلات الكارثية التي حصلت في أكثر من بلد عربي بعد ما عرف (بانتفاضات الربيع العربي) في عام 2011 . حتى أن البعض أصبح يترحم   الحقبة الزمنية التي حكم فيها رؤساء عرب اشتهروا بالاستبداد، لأن واقع بلدانهم ربما كان أقل سوءاً قبل سقوطهم.

في الواقع إن أغلب الشعوب العربية خاضت تجارب عديدة في تاريخها الحديث، وواجهت الاستعمارين العثماني والأوروبي ببسالة إلى أن نجحت في طردهما ونيل الاستقلال. وفي ذات الوقت سعت بقوة إلى تحقيق مطالبها بنشر الحرية والعدالة والديمقراطية بكافة أشكالها في الدولة.

تاريخياً منذ الخمسينات من القرن الماضي يُشير لنا بموضوعية أن من كان يمثل عائقاً أمام تقدم الديمقراطية في العديد من الدول العربية هو الأحزاب القومية واليسارية التي وصلت إلى السلطة، حيث انقلبت أو تخلت عن مبادئها بعد الوصول إلى سدة الحكم، وليس أن الجماهير العربية هي من أفشلت التجارب الديمقراطية الوليدة آنذاك.

أغلب الأنظمة العربية الحاكمة تبرر عدم توجهها لخيار الديمقراطية بمبررات ضعيفة. وإذا كان المبرر للعديد من الأنظمة العربية في الستينات والسبعينات من القرن الماضي وجود الكيان الصهيوني كعدو خطير في منطقة الشرق الأوسط، وأن لا صوت يعلو فوق صوت المعركة، فإن البعض منها أصبحت في الحاضر علاقته بهذا الكيان الغاصب لأرض فلسطين علاقة وئام وصداقة متينه.

كذلك من المبررات التي تستند عليها أغلب الأنظمة العربيّة في تعطيل الديمقراطيّة تهويل وجود حركات الإسلام السياسي وسيطرتها على القرار الشعبي، الأمر الذي سيؤدي إلى وجود ديمقراطية مشوهه أو حتى فوضى شاملة. وفي الواقع هذا المبرر كلمة حق يراد بها باطل! بمعنى أن خطر حركات الإسلام السياسي واضح في جانب الاستفراد والاستبداد السياسي إن هي مسكت السلطة، والأمثلة على ذلك عديدة، ولكن من جانب آخر تتخذه الأنظمة الرسمية ذريعة لاستمرارها في السلطة بعيداً عن كل أشكال الديمقراطية الحديثة.

ومن الملاحظ أن العديد من الأنظمة العربية الحاكمة تلجأ إلى تطبيق نظام ديمقراطي هجين، كأن تُدمج الشورى في العملية الديمقراطية، فتعطي ذات الصلاحيات الرقابية والتشريعية للمعينين وللمنتخبين داخل البرلمان. وبهذه اللعبة يتم تعطيل المحاسبة والمراقبة للحكومة، وكذلك إصدار القوانين أو رفضها داخل البرلمان أو مجلس الشعب والأمة في البلدان العربية.

إن الحل للواقع العربي المتردي منذ عقود طويلة، يكمن فيما أسماه عبد الرحمن منيف (الأداة – الشرط) أي الديمقراطية التي تمثل وسيلتنا للدخول إلى عالم شديد التعقيد والتشابك. وبدون هذه الأداة-الشرط سنبقى ندور حول المشاكل، نتوهمها، نؤجلها، نحتال عليها، نراها من بعد، وأيضاً نغرق في سلسلة من التجارب والأوهام التي نفرضها على أنفسنا، أو يفرضها علينا الآخرون.



إذن الديمقراطية الأداة- الشرط هي الأساس ليس فقط لفهم المشاكل وإنما للتعامل معها. لأن قواعد الديمقراطية تضعنا كحكومة ومؤسسات وأحزاب وجماهير في مواجهة مباشرة مع المسؤولية، وتضطرنا مجتمعين، للبحث عن حلول والمشاركة في تطبيقها وتحمل نتائجها.

غير أن منيف ينبهنا أن الديمقراطية ليست هي الحل السحري، لأنها بجوهرها العميق ممارسة يومية تطال جميع مناحي الحياة، وهي أسلوب للتفكير والسلوك والتعامل وليست فقط أشكالاً مفرغة الروح أو مجرد مظاهر. بمعنى آخر أنها ليست شكلاً قانونياً فقط، وليست حالة مؤقتة، أو هبة أو منحة من أحد، وإنما هي حقوق أساسية لا غنى عنها، وهي دائمة ومستمرة.

وإذا كانت القوى الخارجية تريد لنا أن نستمر في حال من الضياع والتمزق والتناحر، حتى تستمر في السيطرة علينا واستغلالنا، فإن العيب الأساسي يكمن داخلنا، لأننا لم نعمل بصدق في معرفة نقاط القوة لدينا واستغلالها لصالحنا، بل أصبحنا متعودين على الضعف والهزائم.

فهل تُدرك أنظمتنا العربية في مرحلتنا التاريخية الراهنة بكل مشاكلها وتعقيداتها أهمية الرضوخ للديمقراطية (الأداة-الشرط) والعمل باقتناع على تطبيقها بصورة حقيقية لا مزيفة؟ وأن اتهامها للشعوب العربية بأنها قاصرة وغير ناضجة لتطبيق الديمقراطية والانتقال إليها بالتدريج، هي فكرة سمجة؟