سمعته تتقدم وصوله، إنه الوباء الفتاك الجدري، ولكنه ومع ذلك بوجود تيريزا لكل داء أدوية، فهي الملاك الرحيم القادرعلى فعل المعجزات، تلك الفتاة اليتيمة مع الخالة اللئيمة التي باعتها بثمن بخس لأحقر مخلوق على وجه البسيطة، ذاقت التعذيب والاغتصاب اليومي وهي طفلة لايتجاوزعمرها الثالثة عشرة أُخذت عنوّة لذاك الوحش الضاري الذي قتل طفولتها وداس على إنسانيتها ودنّس براءتها ونحر كبرياؤها ووأد كرامتها، أمور كهذه أكثر من أن يتسع لها دماغ.
في الليل يسيطرعليها الخوف وتراودها الهواجس المخيفة، فالتوصيف الدقيق هو ما كتبه جورجي أمادو في هذه الرواية التي ما فتئت مبهوراً بها – تيريزا باتيستا – إذ يقول: “تتجاوب الصرخات في صدرها، تجعل قلبها يدق، عينيها تتسعان، فمها ينقبض، وجهها يتغير، تحولت من حال إلى حال”. حكاية نفس معذبة يرويها آمادوا بأسلوب شيق وجميل وعميق الدلالة والمعنى.
كم هو توصيف جميل وعميق معبرعن حالة هذه الطفلة اليتيمة التي أصبحت في قبضة شيطان متوحش “يتغذى بالفتيات الصغيرات، يمتص دماءهن يمضغ لحمهن الطري، يسحق عظامهن”. تيريزا في تلك المحنة بدت محطمة، ممزقة متألمة لا تقوى على شيء سوى الحقد، بعد أن كانت فتاة ضاحكة تضجّ بالحيوية والنشاط، مسالمة ورقيقة وهي التي لم تعرف الخوف أبداً تحملت العذاب وعاشت المأساة ولم ترتاح الا بقتل ذلك الوغد المسمى الزعيم جوستينيالو ديوارت دا روز، فقد كان هذا اللص القاتل يتفنن في تعذيب هذه الطفلة الجميلة فحتى يتمكن من اغتصابها يضربها بالسوط حتى تسقط مغشي عليها والدماء تجري من كل جزء في جسدها النحيل، فقد عمل على تحطيمها من الداخل فأصبح جسدها مثخناً بالجراح، مخترقاً، مهاناً أقرب إلى الحيوانات منها إلى البشر.
أيتها القديسة المباركة تيريزا كيف لك أن تقومي بكل هذه الاعمال المبجلة؟ إنك صورة البرازيل صورة الامل المنبعث من تحت الرماد، فعندما يُظن أنه ميت ينتفض من النعش كما يقول المبدع جورجي امادو هو الشعب، ولكن كيف لك أن تقومي بكل هذه الأدوار وأنت اليتيمة الفقيرة المحرومة من كل أمل ومن كل جهد وقوة بحكم صغر سنك وجسمك النحيل المجهد والمنهك بفعل القسوة والاضطهاد والعنف النفسي والجسدي.
رواية ولا كل الروايات تقاس بالقدر الذي بني عليه ذاك النسيج الروائي منذ أن بيعت تيريزا وحتى وصول الجدري ودورها في قيادة الفريق الذي قاوم المرض بشجاعة قلّ نظيرها بعد أن هرب الممرضون والأطباء ومسؤولؤ المنطقة وبقيت في مقدمة الصفوف مع أفقر الفقراء المنبوذين في المجتمع – المومسات – يضطلعن بهذه المهمة غير عابئات بما قد يلحق بهن من هذا المرض الفتاك، وبعد كل الذي فعلنه من أجل القضاء على المرض يتشردن من جديد ويذهب الثناء والشكر والمناصب لمن هربوا خوفاً من الإصابات، فأي مفارقة هذه!
الطاعون الأسود كما يسميه جورجي أمادو فتك بمنطقة باهيا وهي موطن الراوي فكان لشجاعة تيريزا باتيستا وصراعها مع هذا المرض أكبر الأثر في القضاء عليه، فقد قدم مسعوراً، كل مرة تعود متأبطة ذراع الموت، قدِم ليقتل ويميت ببرودة وخبث وهدوء، سهرات حزينة، دفن، توابيت، حداد ودموع.
هذه الطفلة الموعودة بالعذاب ورغم جمالها الأخآذ بقت على موعد مع الزمن ورغبات الرجال وقبح الحياة في عينيها بعد أن خُدعت أكثر من مرة بالحب الصادق، فلكي تنفتح على عالم اللذة كما يقول الراوي بحاجة إلى حنان دافق، إلى حب، هكذا فقط تشتعل رغبة وعندها ما من امرأة تشبه تيريزا.
تعيش وحيدة، منكمشة على نفسها في زاويتها لا تختلط بأحد. مرعوبة دائماً، يزول قلقها فقط عندما يغيب الزعيم بسبب تجارته، لقد محت من ذاكرتها أيام طفولتها الخالية من الهموم، إنها لم تعرف سوى الجانب السيْ من الحياة، البؤس، الحرب، الجوع تلك هي حياة تيريزا باتيستا.
هل تستسلم للاحباط؟ لا أبدًا فهي المناضلة الجسورة المقدامة لا يمكن لها أن تتنازل عن المسير لقهر الصعاب بتلك الإرادة الفولاذية الصلبة، فحقّ لها وعليها أن تقوم بكل تلك الاعمال البطولية وكأنما يود أن يقول لنا الراوي بأن الشعب البرازيلي ممثلا في هذه الطفلة لايستكين ولا يقهر أو يخضع للذل والإذلال، فعلى الرغم من أن الجدري قد التهم وحصد الكثير من البشر إلا إن تلك الصغيرة الشجاعة تيريزا كانت في المعمعة بمعية بضع من النسوة المنبوذات بائعات الهوى (يغسلن المصابين، يغسلن الثياب الموبوءة، يفقأن الدمامل، يحفرن القبور، يدفن الناس)، فلم تغادر تلك البلدة الموبوءة بوكيم إلا بعد مغادرة الوباء.
أي قدر ينتظر تيريزا باتيستا بعد كل تلك المآسي غير أن تعود إلى المبغى لتحتضن الموت البطيء، فالأفعال البطولية التي قامت بها لم تنقدها من محنتها بعد أن قتلت ذلك المجرم المكنى الزعيم والمدعو جوسينيانو ديوارت دا روزا، لم تضمر الغدر في قلبها أبداً ولم تلجأ إلى الخيانة، فقد عادت من جديد شامخة مبتسمة.
حتى وقد استقرت في بيت الدكتور فاحش الثراء اميليانو غيديز المعجب بها أي ما إعجاب، واستعملها كعشيقة محظية لديه بعد أن انتشلها من مواخير الدعارة (ماخور غابي) وخلصها من البقاء في إصلاحية السجن بعد قتلها للزعيم بحكم نفوذه الواسع، لم يحالفها الحظ بعد أن تألقت جمالاً وأناقة ونعمة، إذ سرعان ما مات بعد بضع من السنين لتعود وكأنما الزمن مصراً على الا تعيش بكرامة كما البشر الأسوياء.
رواية جورجي آمادو “تيريزا باتيستا” تذكّرنا بالمآسي الموجودة في أوطاننا بتزويج القاصرات وما يتعرضن لهن من مهانة وأذى نفسي وجسدي وهنا تحضرنا مأساة الطفلة اليمنية إلهام العشي ذات الثلاثة عشر ربيعاً والتي لفظت أنفاسها بعد ثلاثة أيام من زواجها إثر تعرضها لعنف جنسي من زوجها وغيرها الكثير ضحايا مثل هذا الزواج، زواج الذل والعبودية الذي يعشنه هؤلاء القاصرات وهن لايعلمن أي مصير وضعن فيه ولايعين مصيرهن سوى إنهن يائسات، بائسات، منتهكة حقوقهن الطبيعية كأطفال لا ذنب لهن في هذه المأساة يتحملن موبقات مجتمع رماهن إلى الجحيم دون رحمة تائهات ومحطمات، آباء لم يحسنوا التقدير والتقرير فيرسلوا بناتهم إلى المجهول غيرعابئين بمصيرهن، فأي جريمة ترتكب بحق هؤلاء القاصرات وأي مجتمع يقبل بهذه الفظاعات لابد وأن يكون مجتمعاً غير سوي، فمن ذا الذي يستطيع احتساب السنين حسب تقويم الألآم لهولاء القاصرات على حدّ تعبير جورجي آمادو؟