الحرب البارِدة الجديدة على الصين – 2

0
31

بقلم : John Bellamy Foster

ترجمة: غريب عوض

          إذا نظرنا إليها في هذا السياق العام، فإن المواجهة بين واشنطن وبكين في مدينة أنكوريج، بدلاً من كونها مُجرد تبادل غاضب بين الدبلوماسيين الغاضبين، يمكن أن يُنظر إليها على أنها تكشفُ عن الخطوط الأساسية لإستراتيجية الولايات المتحدة الإمبريالية الكُبرى فيما يتعلق بالصين، جنباً إلى جنب مع طبيعة رد الصين الإستراتيجي.

         إن إصرار واشنطن على ما تُسميه “نظاماً دولياً قائماً على القواعد والأحكام”، على النقيض من دعوة بكين لنظام واسع قائم على الأُمم المتحدة من الدول ذات السيادة يدعمهُ القانون الدولي (يُشار إليه تقليدياً بإسم نظام Westphalian)، هو أكثر من مُجرد نزاع حول أسلوب التعبير. فهو بالأحرى يُمثل استراتيجية الولايات المتحدة الحالية المُتمثِلة في إجبار الصين على الإمتثال للنظام الإقتصادي السياسي المُهيّمن الذي يفرضهُ تحالف القوى الكُبرى تحت قيادة الولايات المتحدة، وذلك من أجل “تثبيت” علاقات القوة الإمبريالية الحالية.

        وكما قد أوضحت الصين، إذا تم وضع “النظام القائم على القواعد والأحكام” من قِبل الولايات المتحدة وحدها، فلايمكن تسميته قواعد وأحكام دولية، بل “قواعد وأحكام مُهيّمنة.” … إذا كانت تُشير إلى القواعد والأحكام التي وضعتها الولايات المتحدة وحِفنة من الدول الأخرى، فلايمكن تسميتها قواعد دولية أيضاً، بل بالأحرى “قواعد الزُمرة” التي تتعارض مع مبدأ الديمقراطية ولن يتم قبولها من قِبل غالبية دول العالم.

          على وجه الخصوص، تلتزم الولايات المتحدة والإقتصادات الرأسمالية الأخرى في قمة النظام العالمي، ولا سيما ثالوث الولايات المتحدة / كندا وأوروبا الغربية واليابان، بالحِفاظ ليس فقط على المؤسسات المُهيّمنة التي تم تشكيلها في حقبة الحرب البارِدة، مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، إلى جانب نظام التحالُفات العسكرية التي تُهيّمن عليها الولايات المتحدة، ولكن أيضاً ما يُسمى النظام ما بعد الويستفالين post-Westphalian system أو النظام الدولي الليبرالي الذي ظهر خلال حقبة “الإمبريالية العارية” من التسعينيات إلى الوقت الحاضر، والذي أصبح مُمكناً بسبب الفراغ الذي أحدثهُ اختفاء الإتحاد السوفيتي من المسرح العالمي وما نتج عنهُ الولايات المتحدة “لحظة أحادية القُطب.”

           وخلال حقبة ما بعد الحرب البارِدة، تم تنفيذ تيار مُستمر من “التدخُلات الإنسانية” في شؤون الدول الأخرى من قِبل الولايات المتحدة وحُلفائها، مما أدى إلى نشوء حقبة من الحرب الدائمة بِدءاً من توسع قوة الولايات المتحدة (وحلف شمال الأطلسي) في أوروبا الشرقية مع تفكك يوغوسلافيا، وكذلك التدخلات العسكرية في الشرق الأوسط وأفريقيا في انتهاك لسيادة الدول. وتم إضفاء الشرعية على هذا الموقف الإمبراطوري العدواني الجديد من حيثُ “مسؤولية الحماية” وتعزيز قيم “الديمقراطية” و “الإنسانية” حيثُ تُحددُها الولايات المتحدة والقوى الرأسمالية الأساسية الأُخرى التي تؤيد النظام الدولي القائم على القواعد والأحكام.”

            إن الهدف الإستراتيجي للحرب البارِدة الجديدة على الصين من وجهة نظر الولايات المتحدة وحُلفائها ليس تحديداً إحتواء الصين إقتصاياً وسياسياً وعسكراً، وهو أمر غير مُمكن، إنما إيجاد طُرُق لتقييدها وجعلها من المستحيل أن تُحدِث تغييرات في النظام العالمي على الرغم من موقف قوتها الناشئة. ولهذا تم تصميم الإستراتيجية الإمبريالية الكُبرى الجديدة لِتُكرر على نطاق عالمي (وفي العصر النووي الحراري) “دبلوماسية القوارب الحربية” الشهيرة التي فرضتها على أُسرة تشينغ Qing dynasty الحاكِمة من قِبل القوى الإمبريالية الرائدة خلال ما كان يُعرف بـ “قرن الذُل” في الصين، المُمتد من حروب الأفيون حتى الحرب العالمية الثانية. وقد تجسد هذا في المقام الأول من خلال تدمير البريطانيين للقصر الصيفي للإمبراطور في عام 1860، والذي كان مُصمماً لإذلال أُسرة تشينغ Qing dynasty الحاكِمة في عام 1900، خِلال ما يُسمى بتمرُد المُلاكمين (حركة ييتون Yihetuan Movement)، غزت القوى العُظمى الصين فيما كان يُشار إليه بإسم تحالُف الأُمم الثمان (الذي كان يضُم آنذاك بريطانيا والولايات المتحدة وفرنسا وألمانيا والمجر وإيطاليا واليابان وروسيا) فارضين سُلطتهم على أُسرة تشينغ الحاكمة، وفرضوا المزيد من المُعاهدات غير المُتكافئة على البلاد. وكان جزء من التبرير الذي أعطي آنذاك بأن الصين كانت في حاجة إلى الإمتثال لقواعد التجارة والسلوك الدولية.

          وبطريقة مُماثِلة لمعاملة الصين في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، فإن الصين اليوم، وفقاً للإستراتيجية الإمبريالية الأمريكية الراهِنة، يجب أن تكون مُقيدة إقتصادياً وجيوسياسياً وعسكرياً من قِبل تحالف واسع من القوى الإمبريالية. والهدف في النهاية هو الإطاحة بالحزب الشيوعي في الصين وإخضاع الصين للنظام الإمبريالي للإحتكار العالمي لتمويل رأس المال، مع إختزالها إلى وضع ثانوي دائم. وستكون الوسيلة الأساسية لتحقيق ذلك هي نظام المُعاهدات غير المُتكافئة، والقواعد والأحكام القائمة على النظام الدولي الذي يفرضهُ تحالف من القوى العُظمى، بقيادة الولايات المتحدة.

            إن الآلية الرئيسة لهزيمة الصين وضعها في عام 2017 غراهام أليسون Graham Allison مُحلل السياسة الخارجية في جامعة هارفرد، عضو مجلس العلاقات الخارجية، في كِتابهِ “Destined for War: Can America Escape the Thucydides Trap? هل تستطيع أمريكا الهروب من فخ ثيوسيديدس؟، وهو عمل أشاد بهِ جو بايدن بشدة، ووزير الخارجية الأمريكي الأسبق هنري كسنجر، والمدير السابق لوكالة المخابرات المركزية الأمريكية والقائد السابق للقيادة المركزية الأمريكية ديفيد بتريوس David Petraeus. حسب تعبير غراهام أليسون: “يمكن للقوات الأمريكية تدريب ودعم المُتمردين الإنفصاليين سراً. الإنشقاقات في الدولة الصينية موجودة بالفعل.

      التبت هي في الأساس أرض مُحتَلة. تضم منطقة شينجيانغ، وهي منطقة إسلامية تقليدية في غرب الصين، وهي بالفعل تأوي حركة انفصالية أويغورية نشِطة مسؤولة عن شن تمرد منخفض المستوى ضد الحكومة الصينية في بكين. والتايوانيون الذين يُراقبون قسوة الحكومة الصينية في هونغ كونغ Hong Kong لا يحتاجون إلى التشجيع على معارضة إعادة التوحيد مع هذهِ الحكومة الإستبدادية المُتزايدة. هل بإمكان الدعم الأمريكي لهؤلاء الإنفصاليين أن يجر الحكومة الصينية إلى خلافات مع الجماعات الإسلامية المُتطرِفة في جميع أنحاء آسيا الوسطى والشرق الأوسط؟ إذا كان الأمرُ كذلك، فهل يمكن أن تُصبح هذهِ مُستنقع، مما يعكس التدخل السوفيتي في أفغانستان حيثُ دعمت الولايات المتحدة المُجاهدين ضد الإتحاد السوفيتي؟

     “إن الجُهد الخفي، ولكن المُركّز لإبراز التناقُضات في جوهر الأيديولوجية الشيوعية الصينية … يمكن أن يُقوّض النظام مع مرور الزمن ويُشجع حركات الإستقلال في تايوان وشينجيانغ والتبت وهونغ كونغ من خلال تقسيم الصين في الداخل وإبقاء الحكومة الصينية مُتورِطة في الحِفاظ على الإستقرار الداخلي، يُمكن للولايات المتحدة تجنب، أو على الأقل تأخير لفترة طويلة التحدي الصيني للهيمنة الأمريكية”.

      كُلُ هذا الآن هو سياسة الحرب البارِدة الجديدة. بالإضافة إلى أن مهاجمة الصين بِتُهم “الإبادة الجماعية” و”الجرائم ضد الإنسانية” فيما يتعلق بالشعوب الصينية في الداخل، الولايات المتحدة قادرة على تبرير حربها البارِدة الجديدة على الصين، بما في ذلك الحرب الهجينة الفعلية، التي تجمع بين مجموعة من الوسائل السياسية والاقتصادية والمالية والتكنولوجية والألكترونية ومزيد من الوسائل العسكرية التقليدية العلنية والسرية.