ما الذي تقدمه ضريبة القيمة المضافة لنا وللدولة ؟

0
15

يتصاعد قلق المواطنين، مصحوبا بالتذمر هذه الأيام من احتمال إقرار رفع ضريبة القيمة المضافة من 5% إلى 10% ابتداء من أول يناير 2022. حدث مثل هذا الغضب قبيل إلغاء الزيادة السنوية في المعاشات التقاعدية (3%) والتعديلات الأخرى على نظام التقاعد والتأمينات الاجتماعية، وقبيل رفع أسعار الكهرباء والماء، وقبيل رفع الدعم عن اللحوم. وهكذا الحال مع فرض أية رسوم جديدة أو سحب للدعم.

هذه المرة بلغ التذمر الشعبي مديات أكبر، نظرا لتجربة المواطن مع الزيادة الأولى لضريبة القيمة المضافة، إذ أنه يدفعها مع كل عملية شراء تقريبا. وليس التذمر هذه المرة تكرارا، بل تراكما على ما سبق ينذر بتحوله إلى نوعي. فالمواطن لم يعد يشعر بوطأة هذه الإجراءات “التقشفية” فقط، وإنما أصبح يعي أنه أمام تحول نوعي في طبيعة النظام السياسي الاجتماعي.

الحديث يدور عن الأعراض المؤلمة ليس لأخطاء إجرائية هناك أو هناك، بل نهج مخطط على هدي أيديولوجية معينة إسمها الليبرالية الجديدة. الأمر يتعلق بتصميم جازم على تفكيك ما عرف بالدولة الاجتماعية من أساسها. هذه الدعوات ليست جديدة في الغرب، وبدأت كرد فعل على أزمة الدولة الاجتماعية نفسها إثر الركود والكساد منذ عام 1970 وحتى الثمانينات. أعطت هذه الأزمات دفعا لأنصار السياسات الليبرالية لاستبعاد الدور الريادي للدولة في الاقتصاد وتدمير المكتسبات الاجتماعية للمرحلة السابقة. رفعوا عاليا شعارهم الجديد : “كل شيئ من أجل النمو”. وتحت هذا الشعار خفضوا الضرائب على رأس المال بهدف تحفيز الاستثمار وإيجاد فرص عمل جديدة. وبالفعل، حسب معطيات “أوكسفام”، انخفضت الضرائب على دخل الشرائح العليا في الدول المتقدمة من 62% في السبعينات إلى 38%، وفي الدول النامية إلى 28%. كما نشطت الملاذات الضريبية لاحتواء الثروات الهاربة من الضرائب. وهكذا هوت حصة الضرائب على الدخل في إجمالي التحصيل العالمي للضرائب. بينما ارتفعت أشكال الضرائب غير المباشرة الأخرى، ومنها الضرائب على الاستهلاك وفي مقدمتها ضريبة القيمة المضافة.

في موازاة ذلك قيدوا الحقوق العمالية وأضعفوا تأثير النقابات وسهلوا على أرباب الأعمال شروط تشغيل وتسريح العمال وفق مبدأ “Hire & Fire”، دافعين بهم إلى مشاريع “الستارت أب” ذات المخاطر. ومن أجل النمو أزالوا كل القيود التجارية والجمركية والنقدية لكي يجعلوا الاقتصادات أكثر مرونة ولدونة. وفي سبيل النمو خصخصوا التعليم والصحة.

لكن، إلام آل هذا النمو ؟ متوسط معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي محسوبا على أساس الفرد في أوروبا انحدر من 3.4% في الفترة بين عامي 1950 – 1980 إلى النصف تقريبا 1.8% للفترة بين 1980 – 2012. وفي أميركا دينامية مشابهة. في مقابل تباطؤ النمو الفعلي حدث ازدهار قوي لأسواق المال والأوراق المالية، لكن ازدهارها لم ينعكس بأي شكل على غالبية المجتمعات، بل تمتصه فئات عليا قليلة العدد.

جراء انخفاض مستويات التعليم والصحة انخفض نمو رأس المال البشري ونمت القطاعات المتدنية الإنتاجية في قطاعات الخدمات على حساب الصناعة، وتدنت الإنتاجية الحدية لراس المال. وكذلك هبطت معدلات نمو التقدم العلمي التقني. كما أن تفكيك الدولة الاجتماعية أدى إلى ارتفاع خيالي في مستوى عدم المساواة. في الوقت الذي يغرق فيه نصف المجتمع السفلي إلى أعمق، تركز القمة في أيديها ثروات هائلة جدا، والتي ببساطة لا يمكن استثمارها إنتاجيا.

” لم تعد دولة القرن العشرين الاجتماعية موجودة” – أعلنها ملك هولنده وليم – ألكسندر. وعلى أنقاضها يجب أن تأتي “دولة المشاركة”، والتي يجب أن يتحمل فيها الناس أنفسهم المسؤولية إزاء مستقبلهم. وعلى هذا الأساس أطلق كارل بلدت رئيس وزراء السويد في بداية التسعينات استراتيجة “سياسة الطريق الواحد”، موجها ضربة قاسية للاشتراكية السويدية. لكن هذه السياسة أودت بالسويد إلى أزمة اقتصادية عميقة، وبحكومة اليمين إلى خسارة السلطة.

طبيعي ألا تحظى هذه “الإصلاحات” النيوليبرالية بالشعبية في كل بلدان العالم. لذا نجد أن كثيرا من السياسيين يسعون بوعي لأن يضفوا على أنفسهم صفة السياسيين الشجعان والحاسمين الذين لا تنقصهم الجرأة لاختراق عقدة الإجراءات غير الشعبية، لكن “الضرورية” التي يعمد الآخرون إلى تأجيلها. نعم، لم يؤجلوها، لكن بذلك عجلوا بانفجار الأزمة الاقتصادية المالية العالمية عام 2008. وبخلاف كل الأزمات السابقة التي يتلوها نهوض فانتعاش فازدهار، فإننا لا نشهد سوى تعمق هذه الأزمة المتصلة، بكل ما تنبئ به من انفجار قادم أعظم. ومع ذلك نسمع ونرى قادة كثيرين لا يزالون لا يملون الحديث عن ضرورة الإصلاحات النيوليبرالية بتفكيك الدولة الاجتماعية. وكلما اشتدت أعراض المرض، كلما زيدت جرعات الدواء، التي لا تفعل سوى زيادة المرض : نظام اقتصاد الموازنة (أو قل التوازن المالي)، إبعاد الدولة عن إدارة الاقتصاد، المزيد من الخصخصة، التقليل من البرامج الاجتماعية، زيادة وتعدد أشكال الضرائب غير المباشرة.  

ضريبة القيمة المضافة

ضريبة القيمة المضافة هي أكثر أنواع الضرائب إجحافا بذوي الدخل المتوسط والمحدود، وجنبا إلى جنب تُدخل يدَها مع يد المواطن في حافظة نقوده تقريبا في كل مرة يشتري ما يسد حاجاته وأسرته. فمن بين 162 ألف أسرة بحرينية هناك 38 ألف أسرة (23.5%) يشكل دخلها أقل من 300 دينار. أسرة كهذه ستصرف كل دخلها حتى آخر فلس. ويمكن القول أن آخر 20 أو 25 دينارا سيتبخر في شكل ضريبة القيمة المضافة. وقليلُ العزاء فقط فيما يستثنيه القانون من السلع المُعفاة. لكن هذه الضريبة تعد من صنف الضرائب التنازلية، إذ أن عبئها يتضاءل كلما ارتفع دخل دافعها. لذلك فهي لا تعني شيئا البتة بالنسبة للأغنياء. أضف إلى ذلك أنها ليست تمييزية ضد الفقراء فقط، بل وضد المرأة التي هي أقل دخلا من الرجل بصفة عامة.

وعلى أية حال فإن ضريبة القيمة المضافة لا تزال أعجز من أن تضخ للميزانية ما يُعجِّل خفض الدين العام ورفع أعباء خدمته من على كاهل البلاد والعباد، وبالتالي تحقيق الهدف المرسوم بإحداث “التوازن المالي”. فإذا كانت نسبة الـ 5% لا تحقق أكثر من 200 مليون دينار، فإن زيادتها إلى 10% بالتأكيد سوف لن تحقق عوائد إضافية بمبلغ 200 مليون دينار أخرى. ذلك لأن القدرة الشرائية لدى الغالبية الساحقة من المواطنين قد تراجعت كثيرا حتى قبل هذه الزيادة بسبب فرض الرسوم والضرائب الأخرى ورفع الدعم. الحقيقة المرة هو أن خدمة الدين تبلغ الآن 700 مليون دينار، وفي طريقها إلى أن تصبح 750 مليون في عام 2022، حسب التصريحات الرسمية. وهذا يعني أن ضريبة الـ 10%، في حال إقرارها، لن تكون نهاية المطاف. بل أننا ماضون نحو الـ 15%، وهذا ما يُلَّمح به بعض المسؤولين بهمس، وربما وراء أَكَمة الـ 15% ما وراؤها. لقد تزايد ليس إحساس المواطنين بوطأة هذه الإجراءات فقط، بل ووعيهم بكُنه السياسة المالية المتبعة وآثارها الاجتماعية المؤلمة. ولهذا فإن الضغط على النواب من أجل عدم تمريرها جاء أقوى هذه المرة، ويضع النواب في حرج متزايد قبالة ناخبيهم. ولا شك أن مزيدا من الضغط الجماهيري يجب أن يُحدث فرقا.

لم تنته القصة بعد. ضريبة القيمة المضافة هي ضريبة على المستهلك، كما هو الحال بالنسبة لمختلف الضرائب الأخرى في مجال التداول. لكن على المستهلك أن يعي أيضا بأن هناك لغم مُودع في هذه الضريبة، غير مرئي مباشرة. ما يدفعه المستهلك هو ضريبة ق م المُخرجة التي تتضمن عدة ضرائب مدخلة. لنشرح ذلك قليلا :

نظريا، بالطريقة المحاسبية ض ق م هي الضريبة على الفرق بين سعر البيع وسعر الشراء الذي سبقه (v+m). هذا الفرق يتضمن الأجور والتكاليف الأخرى، بما في ذلك  ض ق م التي دفعها تاجر التجزئة لتاجر الجملة، مضافا إلى ذلك ربح تاجر التجزئة. البيع من تاجر التجزئة إلى المستهلك، وقبلها من تاجر الجملة إلى تاجر التجزئة هما المرحلتان الأخيرة وما قبل الأخيرة، تسبقهما عدة مراحل تتكرر ض ق م بمقدار مختلف في كل مرحلة (الاستيراد، الشحن، التخزين، الإعلان). في كل مرحلة، ما عدا الأخيرة، يدفع المستثمر ض ق م للدولة، لكنه يُحمِّلها في إجمالي الكلفة المترتبة عليه، ليتضمنها السعر الجديد للسلعة أو الخدمة. أما في المرحلة الأخيرة فيدفع المستهلك النهائي من جيبه ض ق م المخرجة التي تحوي عمليا ضرائب ق م المُدخلة، لكنه لا يُحمِّلها لاحقا على أحد آخر.

إذا فهمنا هذه الآلية الجبائية شبه المعقدة نسبيا، سنفهم جذرها الاقتصادي والاجتماعي فيما سبق وقلناه، في الأيديولوجية النيوليبرالية لدولة النمو القائلة بأنه من أجل النمو لا ضرائب على رأس المال، بل على الناس. المستثمرون ليسوا دافعي ضرائب هنا، بل جباة ضرائب من جيب المواطن إلى ميزانية دولة النمو لتحقيق توازنها المالي.

لم تكن السياسات المالية، ولا علم الاقتصاد يعرف ض ق م قبل خمسينات القرن الماضي. هذه الآلية، بما تتضمنه من نظام خصومات، ابتدعها الفرنسي م. لوريه عام 1954 ونال عليها جائزة نوبل للاقتصاد. واستُخدمت منذ عام 1967 لتصبح أحد الشروط الضرورية للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي ومنظمة التجارة العالمية.

هذا عن النمو، الذي تسببت دولة النمو في تراجعه وليس زيادته، كما لاحظنا أعلاه، بالرغم من أن النمو بحد ذاته تطور تلقائي يحدث في الاقتصاد عادة. لكن ماذا عن التنمية الاقتصادية الاجتماعية المستدامة والشاملة، التي نحن وإياكم من دعاتها ؟

لكي لا نتوه بعيدا، ففي جانب السياسة المالية – الضريبية سنعتمد في الفقرات التالية على المذكرة التي أصدرها في فبراير 2019 المجلس الاقتصادي والاجتماعي للأمم المتحدة بشأن دور الضرائب وتعبئة الموارد المحلية في تحقيق أهداف التنمية المستدامة، متابعةً للخطة التحويلية العالمية المتمحورة حول الإنسان حتى عام 2030، بهدف القضاء على الفقر والجوع، والنهوض بالتقدم الاقتصادي والنمو لاجتماعي، المستدامين والشاملين للجميع، ومكافحة عدم المساواة وحماية البيئة. هذه الخطة عرفت باسم “خطة أديس ابابا”. وكذلك المؤتمر العالمي الأول لمنتدى التعاون بشأن المسائل الضريبية، وهو مبادرة مشتركة بين صندوق النقد الدولي ومنظمة التعاون والتنمية في الميدان الاقتصادي والأمم المتحدة ومجموعة البنك الدولي.

ما يستفاد من هذه الوثائق، أولا وقبل كل شيئ، أن مصطلح “التوازن المالي” لم يرد على الإطلاق. بالعكس، تم التأكيد مرارا أن دور السياسات المالية في تحقيق التنمية المستدامة لا يتأتى من خلال زيادة الإيرادات فقط، بل وتعزيز خطط الإنفاق دعما لتحقيق أهداف التنمية المستدامة وتحقيق المساواة، بما في ذلك بين الجنسين، وأن تتولد الموارد المحلية في المقام الأول من النمو الاقتصادي قبل الاتجاه إلى فرض الضرائب على الفئات الدنيا. ويجب أن تتضمن الأنظمة الضريبية إجراءات مكافحة الممارسات الضارة كالتدفقات المالية غير المشروعة والتهرب الضريبي ونقل الأرباح إلى ولايات قضائية منخفضة الضرائب. وأن تساعد الإدارات الضريبية في ضمان جمع الضرائب بفعالية من حيث التكلفة والسرعة والنزاهة وتؤدي وظيفتها في محاربة الفساد.

باعتبار الضرائب أداة فعالة في السياسة المالية من أجل إعادة توزيع أكثر عدالة فعوضا عن التركيز على ضريبة القيمة المضافة من المجدي اجتماعيا واقتصاديا التوجه في مجال الاستهلاك لفرض ضرائب تصاعدية على الاستهلاك البذخي، كالسيارات واليخوت الفاخرة والقصور والمقتنيات الباهظة الثمن، وذلك للحد من الاستهلاك الطفيلي وتوجيه الموارد نحو الاستثمار الاقتصادي المنتج، وكذلك لامتصاص جزء من الفائض الضخم لمصلحة تمويل الاقتصاد والبرامج الاجتماعية ودعم المهمشين.

فيما يخص الملكية، من الأهمية بمكان فرض الضرائب على الثروات الكبيرة، خصوصا الغير مستغلة اقتصاديا، وبالذات ما اصطلح على تسميته بالأراضي البيضاء التي يُحتفظ بها كمجرد “أصول” للثروة أو من أجل المضاربات في الفرص المناسبة. آن الأوان لتغيير النظرة إلى أُمِّنا الأرض من مجرد سلعة للتداول والمضاربات إلى اعتبارها مَصدر الخيرات والثروات الحقيقية، هي من أهم وسائل الإنتاج، حين تقام عليها المصانع والمعامل التي تلبي جزءا من حاجات المجتمع وتسمح بتصدير الجزء الآخر، ومثلها المشاريع الزراعية التي تضمن أَمنَنَا الغذائي، أو لمشاريع إيواء المواطنين في سكن لائق يؤمن راحتهم ويساعد على إعادة إنتاج قوة العمل وزيادة الإنتاجية لديهم.  

ليس من بلد متحضر في العالم يخلو من الضرائب على دخل الشركات وحتى على الأفراد ذوي الدخول العالية. وإضافة إلى أن الضرائب على الشركات الكبيرة ستدر على ميزانية الدولة مبالغ أكبر من الضرائب غير المباشرة، فإن كشوف هذه الضرائب ستعكس كما في المرآة الأداء الاقتصادي في كل من الشركات، كما أداء الاقتصاد الوطني برمته. وليس صحيحا أن الضرائب تُهرب الشركات. الشركات العالمية معتادة على دفع الضرائب في بلدان كثيرة. إنما الرشوة والفساد وغياب المناخ الاستثماري الجيد هو ما يهربها أكثر.

تقتضي الحاجة الوطنية تركيز السياسة المالية في ناحية التوزيع على تمويل مشاريع الإسكان التي تبدو الآن عاجزة عن تلبية قوائم المنتظرين الطويلة والمتزايدة.

من الضروري توجيه السياسات المالية لتعزيز المساواة بين الجنسين، مثلا، من خلال تقديم حوافز مالية للقطاعات الاقتصادية التي تؤدي فيها المرأة دورا اقتصاديا فاعلا بارزا، مثل المشاريع الصغيرة؛ ولحماية البيئة وتشجيع الحياة الصحية والرفاه. ويمكن أن تحقق العديد من هذه السياسات هدف تعبئة الموارد وتعزيز السلوكيات الإيجابية في آن واحد، مثلما هو الحال في حالة الضرائب المفروضة على الكحول والتبغ والسكر، أو ما يسمى بـ “ضريبة الخطايا”.

ومن المهم تقليل عدم المساواة في جميع جوانب السياسات المالية، بما في ذلك في تصميم قوانين الضرائب، وفي جمع الضرائب، وفي إدارة الضرائب، وفي كيفية إنفاق الإيرادات (بما في ذلك على الضمان الاجتماعي).

يجدر الأخذ بمبدأ تصاعدية النظام الضريبي. ونعني بذلك زيادة العبء الضريبي في تناسب طردي مع زيادة الدخل، والعكس صحيح. ومراعاة انعكاسات الضرائب الفردية في مجال السياسات على الأسر ذات الدخل المنخفض. ومراعاة أن تكون سياسات إعادة توزيع الإنفاق فعالة في موازنة آثار عدم المساواة للضرائب الفردية التنازلية، مع مراعاة المفاضلات بين النمو الاقتصادي والإنصاف.  

وإذ تحاول الدولة جاهدة إدماج الاقتصاد غير الرسمي في منظومة السياسة الضريبية، فيتعين الأخذ بعين الاعتبار أن الاقتصاد غير الرسمي يتكون في الأساس من مشاريع العمل الصغيرة أو المبتدئة. لهذا فمن الأجدى دمجه في الجانب التوزيعي من السياسة المالية قبل الجانب التحصيلي للرسوم والضرائب، وذلك بهدف مَدِّه بأسباب القوة حتى يصبح قادرا على رفد إيرادات الميزانية فيما بعد.

لا بد من إعادة تنظيم وإدارة ممتلكات الدولة وتعزيز الشفافية فيها وحسن استثمار مواردها وتشديد الرقابة على أنشطتها لتشكل موارد حقيقية، هامة ودائمة لإيرادات الميزانية. ومن الحصافة التخلي عن المشاريع غير المجدية اقتصاديا واجتماعيا، وخصوصا ذات الطابع المظهري الرفاهي المفرط والمكلف.

عموما، لا إيرادات مالية جيدة ووطيدة بدون اقتصاد منتج يولِّد هذه الإيرادات. سأقتبس فقرة من تقرير “فيتش”، الصادر عن البحرين نهاية الشهر الماضي تُبين فيها، دون أن تقصد، حالة اقتصادنا وبنيته. إقرأوا معي : ” إذا تم رفع ضريبة القيمة المضافة إلى 10٪ وبلغ متوسط ​​أسعار النفط 60 دولارًا أمريكيًا للبرميل، فإننا نُقدِّر أن البحرين ستوَلِّد فائضًا أوليًا صغيرًا في عام 2023، مما يضع الدين / الناتج المحلي الإجمالي على مسار هبوطي معتدل، على الرغم من أنه سيظل أعلى بكثير من متوسط ​​التصنيف B”.

تشي هذه الفقرة بأن الموارد المالية للدولة تعتمد بشكل كبير على ضريبة القيمة المضافة من جهة وعلى تقلبات أسعار النفط في الأسواق العالمية من جهة أخرى، ولا ذكر هنا للاقتصاد وأدائه !!

أوردنا هذه الفقرة لنختتم بالقول أن النموذج الاقتصادي النيوليبرالي الذي تجري إشادته حاليا غير قابل للديمومة، وأن مثالبه بدأت تتضح منذ البدايات، بالضبط كما وصل إلى حدوده النهائية نموذج الدولة الريعية الرعائية قبل أكثر من عقد من الزمن. هنا وهناك، كان ولا يزال المطلوب هو إعادة بناء الاقتصاد الوطني ليصبح اقتصادا فعليا منتجا، متناميا ذاتيا، يولي أهداف التنمية الاقتصادية الاجتماعية المستدامة والشاملة أولوية على برامج التوازن المالي ويعتمد التخطيط كأداة علمية فاعلة لتحقيقها، تكون فيه الضرائب أداة لإعادة توزيع الثروة والدخل الوطني لصالح الفئات الأقل دخلا، لا العكس. ويضمن لأبناء شعبه مستويات نوعية من الخدمات التعليمية والصحية، يرعى الطفولة والشبيبة من أجل المستقبل والمتقاعدين شكرا على ماضيهم والمرأة كنصف المجتمع .. اقتصاد من أجل الإنسان، وليس من أجل النمو