عن كراكيب مرئية وأخرى مخفية

0
34

كثيرون استغلوا فترات المكوث الطويلة في منازلهم خلال مرحلة تفشي جائحة “كورونا” فأقدموا على التخلص من الكراكيب الكثيرة المخزنة في بيوتهم ومكاتبهم، الكراكيب كلمة تتردد على ألسنتنا يومياً، ونحن نصف كل شيئ لا لزوم له بالكلمة الشعبية ذات الاصل الهندي “الكجرة”، وتمتد الكراكيب لتشمل كل الأشياء والممارسات والسلوكيات البشرية.

 وقد تبدو عملية التخلص من الكراكيب وصفة ميسرة وصالحة للجميع ولا تحتاج سوى قليل من الإرادة والعزم والتفرغ، لكن ليس الأمر سهلاً للبعض الآخر، لذا تخصصت كتب لعّل أجملها كتاب “عبودية الكراكيب “، ومواقع ومنصات الكترونية عديدة تروج إلى أفضل الطرق للتخلص من الكراكيب فوراً او على مراحل.

 ينصح أحدهم: “إن كنت تخشى الشعور بالندم لاحقاً فتمهل قليلا، واجمع كل ما تود التخلص منه واستخرجه من المخابئ والمخازن والدولاليب المنسية واستبقه عدة ايام أو اسابيع أمام ناظريك كي تتحقق من مدى حاجتك إليه، عندها تستطيع اتخاذ القرار المناسب بإزاحته دون ادنى شعور بالندم على فقدانه أو خسارته”.

 بالقرب من بيتي وجدت حاوية ملابس كتب عليها: “قديمك جديدهم”. عبارة موفقة ومشجعة على التخلص من الكراكيب، فما قد نراه زائداً عن حاجتنا وغير مفيد لنا قد يحقق النفع للآخرين، وذلك عامل مهم في اتخاذ قرار التعاطي مع الكراكيب، فهي ستنتقل من مكان خامل إلى آخر اكثر جدوى، وسيعاد استخدامها وتتجدد دورة حياتها، واسوأ انواع الكراكيب هي تلك المخفيّة والمتراكمة بالتدريج مع توالي الأيام والزمن او التي فشلنا في منع حدوثها ثم عجزنا لاحقاً عن التخلص منها.

 فالشحوم على سبيل المثال أكبر واسوأ كراكيب الجسد، بل إن عمر الإنسان وفقاً للنظريات الصحيّة الجديدة يحدد بمقاس خصره وحجم الشحوم المتراكمة عليه. في حديث جرى بيني واختصاصي جراحة تجميلية ذات مرة، قال : إن الشحوم القديمة المتراكمة في أجسادنا تصير جزءاً من اجسامنا، وعندها تصبح ازالتها بالحميّة والرياضة أصعب وأشق، وأما الجراحة فتشكل تهديداً وخطورة على حياة المريض، ولذا نحن ننصح مرضانا دوما بتفادي بلوغ الشحم لهذه المرحلة” .

ثم هل ننسى تلك الكراكيب الواضحة والجليّة التي نخشى مصارحة انفسنا بها ويحول الخوف والخجل ربما دون التفكير في ازاحتها من حياتنا، فقد تكون مهنة ضاغطة أو شركاء مهنة او تجارة او اصدقاء ينطوون على شخصيات مضطربة وباعثة على الإزعاج الدائم، الويل لنا إن سمحنا لآخرين بالتحكم في قيادة سفينة حياتنا ومارسنا أسلوبالمجاملة والخداع والتكاذب على أنفسنا واستسهلنا وجودها المعيق لنمونا ولنضجنا وتطوّرنا.

بيد إن ازاحة الكراكيب المادية من اي نوع تظل أسهل من تلك الكراكيب الذهنبة أو انماط التفكير القديمة والقناعات الراسخة والمفاهيم التي استقرت وتجذرت عميقا في العقول والوجدان، ولعلنا نرى أن استمرار البقاء في دائرة الحزن والندم والكراهية والخوف والجشع والاسئثار والانانية هونمط حياة واسلوب عيش “كراكيبي” بامتياز، فهل يرتجي المرء تطوراً أو سعادة أو حباً أو فرحا في مساكنتها؟

وقد لا يفطن الواحد منا إلا متأخراً لتلك المشاعر والطاقات السلبيّة المخزنة في حجرنا السوداء المخفية والتي استقرت عميقا في دواخلنا وصارت جزءاً منا، تلازمنا ليل نهار وتنام وتصحو معنا وتقلقنا وتؤرقنا وتستحوذ على حياتنا وتمارس فعلها المدمر والسام على مجرى حياتنا ربما بوعي او دون وعي منا.

ولدى أنظمة الحكم والأوطان والشعوب والمجتمعات والشركات والمؤسسات التجارية والسياسية وغيرها كراكيبها المتأتية من بقاء القديم المعيق وتجنب التغيير والخشية من الجديد ما يشكل بيئة “كراكيبية” خصبة للفساد تقود إلى تنامي الفشل وتعاظم الخسائر، ولا سبيل لعلاج المنظومات الكراكيبية على اختلاف وتعدد انواعها إلا برسم مسار آخر صحيح وانتهاج اساليب حكم رشيدة وسليمة، وازاحة كل السدود المعيقة للنهوض المستدام والتنمية الحقيقية والتخلص من كل الادارات “المكركبة”والقيادات “المكركبة” والسياسات “المكركبة”.