نحو سياسة ضريبية بديلة لتحقيق التوازن في اقتسام الأعباء
تشكل الضرائب بأنواعها المختلفة، الضرائب المباشرة، أي المتوجهة مباشرة للمداخيل المتاحة
(Disposable incomes)، بشقيها المتمثلين في:
- الضريبة المفروضة على مداخيل وأرباح الأفراد personal income tax))
- الضريبة المفروضة على أرباح الشركات (Corporate tax)
والضرائب غير المباشرة بأنواعها، من رسوم وضرائب مبيعات أو قيمة مضافة – تشكل أحد أهم الأضلع التي تنتظم وتشكل السياسة الاقتصادية العامة لأية دولة. إذ تأتي أدوات السياسة المالية، على رأس قائمة “الأسلحة” – إن جاز التعبير – التي بيد وتحت تصرف الدولة لرسم السياسة الاقتصادية ووضع الخطط والبرامج التنموية واعدادها للتنفيذ، سواء عبر دالة الانفاق الحكومي (الاستثماري أو الرأسمالي الموجه للمشاريع، والانفاق الجاري المتمثل خصوصا في مخصصات الرواتب والاجور)، أو عبر الأقنية المختلفة لاستثمارات القطاع الخاص.
تاريخيا فإن ضريبة الدخل تُنسب الى الامبراطورية الرومانية في أيامها الأولى، وطبقتها لأول مرة في مصر التي كانت خاضعة لها، وكانت في حدود 1%، ترتفع الى 3% في أوقات الحروب. وكانت تُفرض على حيازات الأفراد من الأراضي، والمساكن، والعقارات، والماشية، والممتلكات الشخصية، والثروات النقدية، والعبيد.
كما يُنبئنا التاريخ الاقتصادي بأن فرض ضريبة الدخل ارتبط أساسا باندلاع الحروب ودواعي ومبررات تمويلها. ففي المملكة المتحدة التي كانت سباقة في العصر الحديث لفرض ضريبة الدخل، وكان ذلك في عام 1799، كان مسوغ فرض الضريبة الذي قدمه رئيس وزراء المملكة المتحدة آنذاك وليام بيت
(William Pitt)، هو لتمويل شراء الأسلحة والمعدات لمقابلة تحديات حرب الثورة الفرنسية التي اندلعت خلال الفترة من 1792الى 1802 ضد الملكيات في بريطانيا والنمسا.
هناك نوعان أساسيان لضريبة الدخل، هما ضريبة الدخل الثابتة (Flat Income Tax)، وضريبة الدخل التصاعدية (Progressive Income Tax).
ضريبة الدخل الثابتة، هي نظام ضريبي يتميز بمعدل ثابت للضريبة المفروضة على الأفراد والشركات. ومع أنها ضريبة ثابتة، كمسمى وكنسبة مئوية ثابتة، إلا أنها تعتبر ضريبة تناسبية اعتبارا بفروقات الأموال التي تفرض عليها. ولذا فإن كثيرين ممن ينتمون الى المدارس الاقتصادية الليبرالية والنيوليبرالية يعتبرونها ضريبة تدرجية من الناحية العملية. مع أنها ليست كذلك من الوجهة المنهجية المحاسبية ومدلولاتها الاقتصادية الاجتماعية. وهناك عدد من الدول لازال يطبق ضريبة الدخل الثابتة، من بينها على سبيل المثال لا الحصر: البوسنة والهرسك (10%)، وبوليفيا (13%)، وجورجيا (20%)، وكازاخستان (10%)، والمملكة العربية السعودية (الزكاة على مواطني دول مجلس التعاون بنسبة 2.5%، وضريبة دخل بنسبة 20% على الأجانب). فيما تخلَّ بعض الدول عن ضريبة الدخل الثابتة مثل ألبانيا، وجمهورية تشيكيا، وسلوفاكيا، وأوكرانيا وغيرها.
أما الضريبة التصاعدية، فهي تلك التي بموجبها يرتفع معدل الضريبة مع ارتفاع الدخل محل فرض الضريبة. وقد أخذت فلسفة ابتكارها وتطبيقها بعين الاعتبار فئات المجتمع المختلفة، وذلك بفرض ضرائب عالية على أصحاب الدخل المرتفع وضرائب متدنية على أصحاب الدخل المنخفض. وهي متدرجة نسبةً لطريقة تدرج معدلها من الخفيض الى المرتفع، ما ينتج عنه معدل ضريبي متوسط يقل عن ما يسمى بـ”معدل الضريبة الهامشية” (Marginal tax rate)، وهو معدل ضريبة يفرض على كل دينار أو دولار اضافي على شريحة دخل الشخص الخاضعة للضريبة الشخصية. وتستخدم العديد من الدول ضريبة الدخل التصاعدية بهدف توزيع العبء الضريبي بين الأضعف دخلا والأعلى دخلا، بما يضع العبء بصورة أكبر على الأكثر قدرة على تحمله. وتسير الضريبة الارتدادية (Regressive tax) النزولية، في عكس اتجاه الضريبة المتدرجة صعودا، حيث ينخفض معدلها طرديا مع ارتفاع قدرة الفرد على الدفع، أي مع ارتفاع مداخليه الخاضعة للضريبة.
وهناك ضريبة الاستهلاك، وهي ضريبة تفرض على الانفاق الاستهلاكي على السلع والخدمات. وأساس هذه الضريبة هو المال الذي ينفق على الاستهلاك. وهي تعتبر بصفة عامة ضريبة غير مباشرة، مثلها مثل ضريبة المبيعات وضريبة القيمة المضافة. فيما يتعلق بضريبة المبيعات فهي ضريبة تفرض عادةً على مبيعات السلع، وأحيانا على مبيعات الخدمات. وهي تفرض عند منافذ البيع. وجرت العادة أن تستثني القوانين الخاصة بهذه الضريبة، بعض السلع والخدمات. وحين تُدفع هذه الضريبة مباشرة للحكومة، فإنها تسمى ضريبة استخدام السلع والخدمات. أما ضريبة القيمة المضافة، فهي تفرض على القيمة التي يضيفها السوق للمنتَج أو المادة في كل مرحلة من مراحل انتاجها أو توزيعها. فحين يبيع التاجر على سبيل المثال سلعة معينة بسعر أعلى من السعر الذي اشتراها بموجبه، فإن ضريبة القيمة المضافة تفرض هنا على الفارق بين سعر الشراء وسعر المبيع.
وفي حين يرى بعض الاقتصاديين في الأخذ بتطبيقات الضريبة التصاعدية، وسيلة فعالة للتغلب على الأسقام الاجتماعية الناجمة عن اللامساواة الناتجة بدورها عن التفاوت الشاسع بين أصحاب المداخيل المرتفعة وأصحاب المداخيل المنخفضة والمتدنية، حيث يتكفل الهيكل الضريبي بتقليل مستواها – فإن بعض الاقتصاديين من المذهب المحافظ والمذاهب الليبرالية الجديدة، لا يوافقون على التأثير الاقتصادي طويل الأمد لهذه السياسة الضريبية، وذلك رغم اقتران تطبيقات الضريبة التصاعدية بتحسن المستويات المعيشية لعموم السكان ورضاهم عن حصادها على صعيد السلع العامة مثل التعليم والنقل والبنية التحتية. وكما هو ملاحَظ، فإن ضريبة القيمة المضافة شبيهة بضريبة الاستهلاك وضريبة المبيعات، خصوصا لجهة أنها تفرض على المستهلك وليس على المنتِج. مع فارق أنها تفرض على كل مرحلة انتاجية للسلعة تتم فيها اضافة قيمة جديدة. ولذا فإن ضريبة القيمة المضافة تسمى بـ”ضريبة السلع والخدمات” في كل من استراليا وكندا، وسنغافورة ونيوزيلندا.
دول الخليج العربية والضرائب
في ضوء عوامل تاريخية اقتصادية، تتصل خصوصا بالبنى الاقتصادية والاجتماعية لما قبل الرأسمالية، وعوامل الصراع الكولونيالي الدولي على الموارد الطبيعية وأسواق التصريف، تشكلت هياكل اقتصادات البلدان العربية الخليجية وسياساتها الاقتصادية المؤسسة على مذهب الأسواق الحرة المنفتحة على المراكز الاقتصادية الرئيسية للنظام الرأسمالي العالمي السائد في عموم المعمورة تقريبا. ونتيجة لحاجة اقتصادات هذه البلدان، الاستثنائية، في المراحل الأولى من نشوئها كدول معاصرة، للمبادرة الخاصة (Entrepreneurship)، كمصدر لخلق التراكم الأوَّلى لرأس المال وتركيزه، وحاجتها (الاقتصادات الخليجية) الاستثنائية أيضا، للتجارة الخارجية، كنافذة تطل منها على أسواق السلع والخدمات في البلدان الصناعية المتقدمة التي ارتبطت بها بعلاقات وثيقة أملتها ظروف الصراع الكولونيالي الدولي – فقد كان من الطبيعي أن تختار هذه البلدان سياسات مالية مرنة، سواء فيما يتعلق بعدم فرض ضرائب مباشرة على الدخل، أو على التصدير، والاكتفاء بضرائب معتدلة على الواردات لتمويل جزء من جانب المصروفات في موازناتها العامة. وقد جاءت الاكتشافات البترولية مطلع القرن العشرين، لتعزز سياسة صفر ضرائب مباشرة على الدخل (دخل الأفراد والشركات).
ولربما كانت البحرين سباقة في هذا المجال بسبب الدور التجاري المحوري الذي لعبته في المنطقة حتى أواسط سبعينيات القرن الماضي. فقد ظلت خلوا من أي نوع من أنواع الضرائب على مداخيل الأفراد أو على أرباح الشركات، وعلى الثروات، فضلا عن حرية تحويل الأموال الى الخارج من دون أية ضريبة تذكر. ولكن علينا أيضا أن نلفت الانتباه الى أنه في ظل غياب الضرائب المباشرة، فقد كانت هناك أنواع مختلفة من الضرائب غير المباشرة التي تجبيها الدولة في صورة رسوم على سلة واسعة من الخدمات التي تقدمها للأفراد والشركات. حتى أن هذه العائدات لعبت دورا محوريا في تمويل الانفاق الجاري والانفاق الرأسمالي (ميزانية المشاريع) من خلال الموازنة العامة للدولة، خصوصا في مرحلة ما قبل تصدير أول شحنة من النفط الخام لليابان في عام 1934. وحتى بعد أن أصبحت إيرادات النفط مقررا حاسما في تثوير النمو الاقتصادي والرفاه الاجتماعي اعتبارا من منتصف سبعينيات القرن الماضي، ظلت الضرائب غير المباشرة، تواصل اسهامها الكبير سواء كحصة تناهز نسبتها 10% في مكونات اجمالي الناتج المحلي، أو في إيرادات الموازنة العامة للدولة.
بالمقابل، فقد تحملت الحكومات الخليجية جزءاً من تكلفة عديد السلع والخدمات التي يستهلكها المواطنون والمقيمون من خلال نافذة ما تسمى بالدعومات (Subsidies) المالية، والتي شملت عددا من السلع الأساسية والخدمات بأنوعها. وكانت هذه الحزمة من الدعومات، إضافة الى غياب الضرائب المباشرة، تشكل أساس دولة الرعاية التي عاشت في كنفها المجتمعات الخليجية طوال فترات الازدهار النفطي. لكن هذا الواقع لم يعد متاحا اليوم. فسلعة النفط تتعرض لتحديات بل وتهديدات جدية قد تفقدها موقعها المتميز، كصانع ألعاب – إن جاز التعبير – في دورة النمو للاقتصادات الخليجية. وهو ما يؤذن بدنو نهاية دولة الرعاية وبدء مرحلة دولة الكفاية والجباية. فمنذ أن هوت أسعار النفط منتصف عام 2014، ودول مجلس التعاون تواجه مشكلة عدم كفاية حصيلة جبايتها من الإيرادات النفطية لتغطية جانب مصروفاتها، بشقيها المتكررة والرأسمالية، في ميزانياتها العمومية. هو نفس السيناريو يتكرر بكامل تفاصيله عندما يتجاوز مستوى انخفاض سعر برميل النفط نقطة التعادل التي تتوازن فيها على الأقل الإيرادات مع المصروفات. وذلك رغم الجهد المبذول من قبلها لتوسيع قاعدة التنويع الاقتصادي بعيدا عن هيمنة النفط على الخط الرئيسي لنشاط الدورة الاقتصادية.
تكرار مشكلة الاختناقات المالية في الدول الخليجية في كل مرة تنهار فيها أسعار النفط، رغم الأحاديث والتأكيدات المتكررة بشأن الالتزام بسياسة التنويع الاقتصادي، ينم عن وجود خلل ما في هذه السياسة التي لم تسعف دول التعاون على مقابلة تحدي الإنحسارات المفاجئة لإيراداتها من قطاع انتاج النفط. فالحال أن التنويع طال إجمالي الناتج، ولكنه ظل بعيداً جدا عن متناول الموازنات العامة، ذلك لأن الإجمالي حتى بحالته المتنوعة المبلوغة، لا يسهم بقسطه في تأمين ايرادات الموازنات المقابلة لجانب المصروفات المتصاعدة بطبيعتها بسبب ازدياد المتطلبات التنموية (الاقتصادية متمثلة في المشاريع الرأسمالية) والاجتماعية.
في شهر يونيو من عام 2016 أصدر صندوق النقد الدولي تقريرا حول منطقة الشرق الأوسط وشمال افريقيا، جاء فيه، فيما يتعلق بالمالية العامة، أن دول مجلس التعاون ستجتاز عاما آخر عسيرا على صعيد ماليتها العامة، وان معدل نموها الاقتصادي سينخفض من %3.6 في عام 2015 الى 2.1% نهاية 2016، نتيجة لانهيار أسعار النفط، وان عجوزات موازناتها ستشكل 13% من اجمالي نواتجها المحلية، بعد أن كانت سجلت فائضا في عام 2013 بلغت نسبته 8.5%. توقعات الصندوق تذهب الى أن عجوزات الموازنات منسوبة لإجمالي النواتج المحلية ستدور حول متوسط 7% خلال الفترة بين عامي 2016 و 2021، برصيد تراكمي يصل الى حوالي 900 مليار دولار، وان اجمالي الدين العام منسوبا لإجمالي النواتج المحلية سيرتفع من 13% نهاية 2016 الى 45% بحلول عام 2021، محذرا من أنه سيتعين على هذه الدول، خصوصا منها تلك الأكثر تأثرا بانخفاض أسعار النفط مثل مملكة البحرين التي توقعت وكالة موديز للتصنيفات الائتمانية أن تصل نسبة الدين العام الى اجمالي ناتجها المحلي الى 100% بحلول عام 2019، ارتفاعا من 59% في عام 2015 – من أنه سيتعين عليها تسوية 10% من ديونها اذا أرادت تفادي اللاتوازن المالي الذي يمكن أن يعرض عملاتها لهجوم المضاربين. وكانت “موديز” قد خفضت التصنيف الائتماني لكل من مملكة البحرين وسلطنة عمان والمملكة العربية السعودية مرتين في ظرف ثلاثة أشهر فقط في العام الماضي، الأولى في 17 فبراير 2016 والثانية في 14 مايو 2016، بدعوى أنها الأكثر تأثرا بانخفاض أسعار النفط.
وبحسب البنك الدولي ومؤسسة التصنيف الائتماني Moody’s، فإن البحرين هي أكثر الدول الخليجية معاناة من تفاقم أزمة الدين العام، حيث من المتوقع أن يتخطى هذا الدين منسوبا الى اجمالي الناتج المحلي، 100% في عام 2020.
لذا فقد اضطرت دول مجلس التعاون، مدفوعة بهذه الحقائق الاقتصادية والمالية الخطيرة، الى تبني خيار فرض الضرائب. فسارع أولاً مصممو السياسة المالية في الاقتصادات الخليجية لاقتراح وتطبيق مزيج من سياسات التقشف في الانفاق مع سياسات جبائية ضريبية (غير مباشرة في المرحلة الأولى)، لزيادة غلة إيرادات الموازنة، ثم الصعود درجة ثانية باتجاه فرض ضرائب مباشرة، فوقع الاختيار على ضريبة القيمة المضافة، حيث أقر المجلس الوزاري لمجلس التعاون مطلع العام الجاري الاتفاقية الموحدة لـ ضريبة القيمة المضافة لدول مجلس التعاون الخليجي، والاتفاقية الموحدة للضريبة الانتقائية لدول المجلس، وسيجري تطبيق ضريبة القيمة المضافة اعتبارا من أول يناير 2018 بنسبة 5% على جميع المنتجات والخدمات باستثناء 94 سلعة أساسية تم توصيفها بـ”السلع الصفرية”. كما تقرر فرض ضريبة ثانية أُطلق عليها مسمى الضريبة الانتقائية، وذلك بنسبة محددة على سلع منتقاة تم حصر قائمتها حاليا في التبغ ومشروبات الطاقة بنسبة 100% والمشروبات الغازية بنسبة 50% من سعر التجزئة. وسيضاف للقائمة بعض السلع لاحقا، الأرجح أن تكون سلع كمالية. وقد روعي في القرار اعطاء فترة سماح اقصاها نهاية 2018 لبعض الدول لحين استكمال اجراءاتها وتشريعاتها لتطبيق الاتفاقيتين. وقد حظيت الاتفاقيتان بمصادقة كل من المملكة العربية السعودية ودولة الامارات العربية المتحدة، ما جعلهما نافذتي المفعول استنادا لما نصت عليه الاتفاقيتان باعتبارهما نافذتين حال قيام دولتين بإيداع وثيقة التصديق عليهما لدى الأمانة العامة لمجلس التعاون. كما حظيت الاتفاقيتان بموافقة مملكة البحرين وكذلك دولة الكويت ودولة قطر، بصورة رسمية عليها، على أن تستكمل هذه الموافقة بالإجراءات الدستورية والتشريعية اللازمة بشأنهما من قبل السلطات التشريعية المعنية بالمصادقة عليهما. وغنيٌ عن القول إن الأمر يستلزم موافقة ومصادقة الدول الست على الاتفاقيتين للحيلولة دون تدفقات مالية ورأسمالية عبر الدول الست للإفادة من تغاير السياسات المالية. وقد بدأت بالفعل كل من المملكة العربية السعودية تطبيق ضريبة القيمة المضافة والضريبة الانتقائية، فيما بدأت دولة الامارات العربية المتحدة تطبيق ضريبة القيمة المضافة اعتبارا من يناير 2018، فيما تتجهز بقاقي الدول الأعضاء في المجلس لتطبيقهما أواخر العام الجاري أو في الربع الأول من العام المقبل على الأرجح.
وهكذا، فقد رأينا كيف اتخذت دول مجلس التعاون الخليجي اجراءات استثنائية تخص السياسة المالية، وكيف جاءت هذه الإجراءات على مستويين زمنيين، الأول قريب الأمد يغطي الحاجة الفورية لمقابلة النقص الحاد والداهم في الإيرادات، فيما يغطي الثاني، المدى المتوسط متمثلاً في ضريبة القيمة المضافة والضريبة الانتقائية. ونميل الى اعتبار هاتين الضريبتين، ضريبتين انتقاليتين، لكونهما تشكلان مرحلة انتقالية نحو مقاربات علاجية بعيدة الأمد لاختلالات الموازنات الخليجية العامة.
السؤال الآن: هل هذه الجبايات المتفرقة ستحل مشكلة العجز في الموازنات الخليجية على المدى البعيد؟ ولماذا وقع الاختيار على ضريبة القيمة المضافة عوضا عن ضريبة الدخل؟
إننا في الوقت الذي نعتقد فيه بأن ما قام به المسؤولون عن السلطات المالية في دول التعاون، من نصح وتوجيه الحكومات الخليجية لاتخاذ تلك التدابير المالية التقشفية الاستثنائية، كان عملا موفقا وضروريا اقتضته اللحظة المالية الحرجة التي وُضعت فيها الماليات العامة الخليجية على حين غرة إثر تواتر تبخر أكثر من نصف إيراداتها المالية جراء انهيار سعر برميل النفط، الا أننا نعتبر أيضا هذه الاجراءات ليست كافية بحد ذاتها لمعالجة الاختلال المالي في الموازنات الخليجية بين الإيرادات والمصروفات على المدى الطويل. صحيح أنها تخلق لجانب الإيرادات وفرا ماليا قصير ومتوسط، والى حد ما طويل الأمد، الا نها تستجيب في ظرف زمني محدد لمستوى، محدد أيضا، من العجز المسبِّب للفجوة بين الايرادات والمصروفات، وهذا العجز مرشح للارتفاع في حال استمرت إعادة انتاج النموذج المالي، والتنموي العام، الحالي، ما سيجبر مسؤولو إدارة أدوات السياسة المالية للنصح من جديد بفرض مزيد من الضرائب غير المباشرة لتغطية نسبة الارتفاع الجديدة في العجز.
ثم ان هذه الاجراءات المتخذة ذات وجهة تقشفية ضاغطة، على كافة مكونات اجمالي الناتج المحلي، لاسيما معامل الاستهلاك، وذلك نتيجة فرملته، أو فرملة قدرته الشرائية، ما سينعكس سلبا على جانب الطلب على اجمالي الناتج، حتى إذا ما انخفض الاجمالي فلسوف تنخفض ترتيبا حصيلة القيمة المضافة المجباة. علماً بأن ضريبة القيمة المضافة سوف تفرض على الفارق بين سعر تكلفة السلعة وسعر بيعها.
مضاهاة القيمة المضافة بالضريبة التصاعدية
لازالت ضريبة القيمة المضافة مثار جدل منذ ظهورها للمرة الأولى سنة 1954 في فرنسا باقتراح من موريس لوريه الذي كان قد وضع قواعدها الرئيسية سنة 1953، حيث انصبت حوارات وسجالات ممثلي المجتمع والدولة اهتمامهم حول آثار هذه الضريبة. فهي في الوقت الذي تشكل فيه حافزا للاستثمار، من حيث انها مفروضة على الانفاق الاستهلاكي وليس الاستثماري، وغاية ذلك عدم زيادة أكلاف الاستثمار بفضل استرجاعها، فإن لها سلبيات أيضا من بينها: أن هذه الضريبة يتحملها المستهلك بشكل كامل، فيما يُعفى المنتِج من دفعها، وتحميل مختلف فئات المجتمع عبء دفعها لقاء استهلاكها لسلع أساسية، وانتقال أثرها بطريقة غير مباشرة إلى المنتجات غير المشمولة بالضريبة ولكنها بحاجة في ذات الوقت إلى لقيم مفروض عليه ضريبة.
لقد اعتمدت أكثر من 150 دولة ضريبة القيمة المضافة كوسيلة لموازنة ميزانيتها. وهي ضريبة مشابهة لضريبة المبيعات، لكن جبايتها تتم في كل خطوة من خطوات سلسلة الإنتاج. فحين يقوم المزارع ببيع حصاد حبوبه الى الخباز الذي يقوم ببيع خبزه للمطعم الذي يبيعه هو الآخر للمستهلك، فإن إضافة كل قيمة جديدة في هذه العملية ستكون خاضعة للضريبة المضافة، أي أن المزارع والخباز وصاحب المطعم والمستهلك النهائي سيدفعون نسبة الضريبة المضافة المقررة. ويجادل البعض أن اعتماد ضريبة القيمة المضافة بدلا من ضريبة المبيعات رغم تشابههما، يعود الى أن سلسلة فرضها تصعِّب عملية الغش والتهرب من دفعها. ذلك إنه إذا تهر أحد أطراف السلسلة الإنتاجية من دفعها، فلن يتمكن باقي الأطراف من ضمان انتظام عملها.
ومن مزاياها، كما يقول المدافعون عنها، إن الجميع يدفعها. كما إنها تشكل مصدرا لتوليد الإيرادات، رغم معدلها المنخفض. ولذا يقال بأن من الأسهل سياسيا فرض ضريبة القيمة المضافة بدلاً من فرض ضرائب أعلى على الأغنياء أو الشركات.
لكن بالمقابل، يقول منتقدو القيمة المضافة، إنه عندما تزن مزايا وعيوب ضريبة القيمة المضافة، فإن العيوب هي التي تفوز. وهي سيئة على وجه التحديد لأنها تجعل من السهل زيادة الإيرادات. بدلاً من قيام الحكومة بخفض وترشيد إنفاقها. كما إنها، مثلها مثل ضريبة المبيعات، تعتبر ضريبة تنازلية “Regressive tax” (بموجب الضريبة التنازلية ينخفض معدل الضريبة طرديا مع ارتفاع المبلغ الخاضع للضريبة). فالثري والفقير يدفعان نفس ضريبة القيمة المضافة، لكن هذه النسبة منسوبة الى دخل كل منهما، تكشف عدم العدالة في توزيع العبء الضريبي. أي أن عبئها يقع على عاتق الفقراء بشكل غير متناسب من حيث أن الفقراء ينفقون من دخلهم أكثر من الأفراد الأغنياء، تناسبا مع الدخل. كما أنها تشكل مصدراً من مصادر التضخم، اعتبارا بلجوء قطاعات الأعمال بتحين الفرص لرفع الأسعار؛ ومن المؤكد أن إدخال ضريبة القيمة المضافة يوفر مثل هذه الفرصة. وهي أيضا تؤثر بصورة كبيرة على الشركات كثيفة العمالة مقارنة بالأخرى المنافسة كثيفة رأس المال، نظرًا لأن نسبة القيمة المضافة إلى سعر البيع أكبر لدى الأولى. وهذه مشكلة حقيقية للاقتصادات والصناعات كثيفة العمالة.
ولعل هذه العيوب هي التي حدت بعديد الدول، ومن بينها الولايات المتحدة الأمريكية، لاعتماد ضريبة الدخل التصاعدية (Progressive Income Tax) التي يتم بموجبها تقسيم الأفراد أي دافعي الضرائب إلى فئات بناءً على مداخيلهم، بدلا من ضريبة الدخل الثابتة
(Flat Income Tax)، ذات الأثر الاجتماعي المماثل لضريبة القيمة المضافة.
لذا، فإنه حين تُعقد المفاضلة بين فرض ضريبة القيمة المضافة التي تقع أعبائها على المستهلكين، أو ضريبة الدخل التصاعدية التي تتوزع أعباؤها على مختلف فئات المجتمع وفقا لمستويات مداخيلهم، والتي تشكل إحدى آليات إعادة توزيع الدخل، فإن الكفة ستميل لصالح الأخيرة. هنا في هذا المقام بالتحديد، وفيما يتعلق بنا في مملكة البحرين، سوف يتعين علينا العودة الى رؤية 2030، والى مبادئها الثلاثة الأساسية تحديداً، وهي:
- الاستدامة (Sustainability)
- التنافسية (Competitiveness)
- العدالة (Fairness)
فالرؤية تنشد في أحد أهدافها الثلاثة، تحقيق حد معقول من العدالة، سواء في توزيع عوائد نمو اجمالي الناتج المحلي في صوره المختلفة ومنها الرواتب والاجور ومخصصات الدعم والانفاق العام الأخرى، أو في توزيع أعباء وتكاليف الأنفاق على محركات نمو الاجمالي. وبهذا المعنى تصبح الضريبة التصاعدية أقرب لتحقيق هدف العدالة المدبج في الرؤية منه الى ضريبة القيمة المضافة.
الأمر الثاني الذي سوف يسترعي انتباهنا بهذا الصدد أيضا، هو أن الدول الخليجية، بدفع امتد أمده من جانب المؤسسات المالية الدولية، لاسيما صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومؤسسات التصنيف الدولية (وجميعها، وهي ثلاث، أمريكية)، قررت التخلي عن الدعم الأفقي
(Across the board subsidy)، للسلع والخدمات، والذي يشمل جميع فئات المجتمع دون استثناء أو تفريق على أساس الدخل، والاستعاضة عنه بتطبيقات مبدأ توجيه الدعم لمستحقيه، أي لأصحاب المداخيل المنخفضة والمتدنية، وذلك نشداناً للعدالة في إعادة توزيع الدخل.
وعلى ذلك فإن اختيار دول مجلس التعاون لضريبة القيمة المضافة، يعتبر، على ما نزعم، عودةً غير مباشرة عن المعيار الذي اعتمدته حين قررت استبدال الدعم العمومي الأفقي بالدعم الموجه والخاص. وهو ما يتطلب أخذه بعين الاعتبار حين يحين أجل تقييم نتائج تطبيقات القيمة المضافة وأثرها الاقتصادي والاجتماعي، انطلاقا من تحليل تكلفة العائد والتكاليف.
المطلوب إذا التفكير في خيارات أخرى ذات طبيعة بعيدة المدى لمعالجة اختلالات الموازنات الخليجية. المطلوب من القائمين على إدارة السياسة المالية أن لا يتوقفوا عند حلولهم المحاسبية الدفترية ذات المفاعيل قصيرة ومتوسطة المدى وذات الأثر السالب على نمو الاجمالي، والتي هي في العادة الوصفات العلاجية المقدمة من قبل خبراء ومستشاري صندوق النقد وبعض وكالات التصنيف الدولية، والتي تركز “مشوراتها ونصائحها” على خفض الرواتب والأجور والتخلص من دعومات السلع والخدمات الأساسية التي تشكل جزءً لا يتجزأ من حزمة القدرة الشرائية للأفراد وما يسمى بمؤشر نوعية الحياة الضامن لزخم انتاجيتهم.
سوف يتعين على دول التعاون أن تطرق خيارات لا يقاربها عادةً أولئك الخبراء من قبيل التقصي بالبحث والدراسة عن مكامن الفاقد (Waste) المالي، ثم العمل بإرادة صلبة وعزم وحزم لا يلينان على سد كل منافذ تسربات ذلكم الفاقد من عصارة الجهد التنموي (اجمالي الناتج السنوي). وفي مقدمة هذه التسربات أيدي الفساد المالي والإداري الخفية الساطية على جزء كبير من الإيرادات المستحقة للموازنات العامة، أو على جزء معتبر من مخصصات الانفاق الجاري والانفاق الرأسمالي في هذه الموازنات.
وبموازاة ذلك يتعين البحث عن تلك المعالجات ذات الوجهة والمحتوى التنمويين الباحثة والمكرسة لتغيير بعض الديناميات الداخلية للهيكل الاقتصادي المحركة للنمو، بما يشمل ذلك إعادة استعراض ومراجعة ميزان التجارة الخارجية (الميزان التجاري) ودراسة امكانية اجراء خفض رشيد في فاتورة الواردات استنادا الى حق الدول في منظمة التجارة العالمية في مراجعة وارداتها في حال تسبب فيضها في اختلال ميزان مدفوعاتها ونقل هذا الأثر السلبي ترتيبا لسعر الصرف الرسمي لعملتها.
كما يُفترض أن تشمل تلك المعالجات بعيدة المدى إعادة استعراض ومراجعة وتقييم هيكل أسواق العمل واجمالي قوة العمل النشطة اقتصاديا، ونسبة العمالة الأجنبية في هذا الاجمالي، ووضع كل ذلك قبالة معدلات النمو المستهدفة، الممكنة البلوغ للسنوات العشر المقبلة في ضوء استعراض كافة مؤشرات الأداء والطاقات المتاحة، بالأخذ بعين الاعتبار مستقبل السوق البترولية العالمية والاقتصاد العالمي بالإجمال. وهو تحليل من شأنه الانتهاء الى خلاصة مؤداها، حتمية تحجيم قوة العمل الأجنبية في أسواق العمل الخليجية بمتوسط يتراوح ما بين 25-35% من عددها الاجمالي، وفقا لخلاصة تحليل بيانات مؤشرات الأداء وطاقة وامكانية النمو المستقبلية لكل دولة، وذلك بهدف تقليص الضغط الهائل الواقع على عديد البارومترات الاقتصادية والمالية ومرافق الدولة وبناها التحتية.
ويجب أن تشمل أيضا المعالجة بعيدة المدى، تغيير أنماط الحياة الانتاجية والاستهلاكية للدولة والمجتمع، واستعادة ثقافة الانتاج والعمل على التخلص نهائيا من ثقافة الاستهلاك المدمرة للاقتصاد والبنيان المجتمعي. هنا يتعين علينا جميعا، كدول وأفراد مجتمعات خليجية أن نستعيد ثقافتنا الانتاجية لما قبل طفرتي أسعار النفط في 1973 و1979، وما قبل اكتشاف النفط، وتواضع وعقلانية وجمال علاقتنا بمنتجات وسلع الاستهلاك التي لم يكن الترف الاستهلاكي وسلوكيات التبذير الاستفزازي الغريب، قد اقتحم بعد نسق ثقافتنا الانتاجية. فلا مناص أمامنا كدول ومجتمعات من البدء منذ الآن بالتصرف على أساس أن “نزهتنا” النفطية قد شارفت على نهايتها، وأن نعيد النظر في كافة مناحي وأنماط انتاج وإعادة إنتاج حياتنا، بأن تكون جميع قراراتنا عقلانية لا تشوبها شائبة البطر والهدر. بكلمات أخرى علينا أن نتنازل جميعا، دول ومجتمعات، عن بعض “امتيازات” – إن جاز التعبير – مستوى معيشتنا. هل هذا سيقلل الطلب الكلي على اجمالي الناتج؟ نعم هو كذلك، ولكنه بالمقابل سيعيد “هندسة” هياكلنا الاقتصادية باتجاه التوازن المطلوب بين الانتاج والاستهلاك، ويعيد الاعتبار لمبدأ الاستدامة في طرائق تعاملنا مع ثرواتنا وعدم الاستهتار بحقوق أجيالنا القادمة فيها.