عود ثقاب غير قابل للإشتعال

0
105

ساهم الكاتب البحريني جمال الصقر في خروج الكثير من الأعمال المسرحية البحرينية؛ تأليفاً وإخراجاً، وقد كان النصيب الأكبر لمسرحة هذه النصوص عبر مسرح البيادر، الذي ساهم في تأسيسه مع آخرين، قدموا العديد من العروض خارج وداخل البحرين. وعرض “عود ثقاب” هو نسخة مجددة من عرض قدم في 2008، وأيضاً 2016، بكوادر أخرى من البيادر المؤسَّس عام 2005، برؤى واضحة منذ بدايته، والحفاظ على نهج نظامه الأساسي عبر الارتقاء بالمسرح فنياً وتربوياً، مع مراعاة القيم والعادات الأصيلة للمجتمع البحريني والتقاليد العربية العريقة(1)، وهو ما التزم المسرح به منذ البداية وحتى الآن، في جو من المحافظة المحبذة، والتي تصب في توجيه المجتمع نحو القيم والأخلاق الفاضلة كما يذكر نظامهم بذلك. وكان الصقر قد قام بإخراج العمل سابقاً في البحرين والكويت.

تدور أحداث العرض حول رجل كفيف “جابر”، يؤدي دوره “عبد الرحمن بوصابر”، يعيش بمعيّة والدته المريضة، بعد أن تخلت عنه زوجته “مريم” ورحلت مع ابنتها “زينب”، ويعيش هو على أمل عودتها في وقت ما. هذا الانتظار هو كل وقت العرض المسرحي؛ حيث يدور جابر في حلقة مفرغة من حياته، في البحث عن الشموع وأعواد الثقاب التي تنطفئ واحداً تلو الآخر دون أن ينجح في إشعال شمعته، وما في ذلك من رمزية معنية بتوصيف حالته. فلِمَ قد يهتم كفيف بالنور، ويصر أن يرى وجه أمه الجميل كما عبر عن ذلك؟

هل العمى حالة رمزية هنا، أم واقعية؟ أم أن هناك امتزاجاً بين الحالتين؟ هذا أيضاً ما يمكن تمييزه من الديكور المبني، الذي وصف المكان ولم يحدده، عبر إشراك قماش “الخيش” في كل القطع الموجودة على الخشبة، بما فيها الكرسي المتحرك المخصص لوالدة جابر. وليس هذا اعتراضاً على خلط المناهج المسرحية في الواقعية والرمزية على سبيل المثال، فهو مباح تماماً للمخرج الذي يفرض رؤيته كاملة، لكن هذا المزج يشبه الصيدلاني الذي ينتج الأدوية بنسب محسوبة بدقة، أو يصبح هذا الدواء الشافي سماً قاتلاً.

وبعيداً عن قراءة النص، أو مشاهدة العرضين السابقين لهذه المسرحية، سيدرك المشاهد أن هذا النص مهيأ لمونودراما، لبطولة ممثل واحد نعيش معه معاناته النفسية، ونشعر بمحنته العاطفية التي يستسلم فيها ذليلاً، حتى بخياله لطليقته، حيث تهيأ له بمكالمة ابنته – التي هجرت والداها بالكامل كما والدتها – وعزمت أن تزور جدتها، أنها مدفوعة من قبل أمها حتى يعود الوصل بين جابر ومريم – أو هكذا تهيأ له -. إذاً فكل الحدث مرتكز هنا، وهذا ما فعله العرضان السابقان المشار إليهما. بيد أن “عود ثقاب”، الذي أعده وأشرف عليه “عبدالله الدرزي”، وهو ما يعني مسؤولية مضاعفة عليه، قد اجتهد في خلق شخصيات أخرى غير الشخصية الرئيسية “جابر”، وهم والدة جابر/ مريم/ والعشيق، رغم دورهم المحدود جداً في العرض، والذي يمكن الاستغناء عنه ببساطة شديدة. فعلى سبيل المثال: الوالدة العاجزة حركياً، والتي لم تنطق إلا بضع كلمات بسيطة، منها “إن مريم سيئة”، مع تكرارها عدة مرات، وإصدار أنين متصل طوال فترة وجودها على الخشبة، مما يهدر جهد الممثلة ولا يبين قدراتها التمثيلية، بالإضافة إلى أن العلاقة بين الوالدة وجابر تصل إلى الضرب المفضي للموت، لمّا ثار عليها بسبب رأيها في “مريم”، وأنها السبب في سوء علاقته بزوجته وطلاقه لها.

هذا المشهد، بالإضافة إلى لياقته إنسانياً – إلا في الضرورة طبعاً -، إلا أنه كان على المخرج أن يوجد حلولاً إخراجية أخرى. ماذا لو كانت الأم دمية قماش مثالاً؟ هل سيحول ذلك دون وصول المعنى للمتلقي؟ هل يتعين على المتلقي أيضاً أن يعتاد البشاعة ويردد أن في الواقع نماذج أسوأ من هذا؟ بالتأكيد؛ الحياة مليئة بما يفوق هذا، لكن ما قيمة الفن إن لم نصدر فيه كل المعاني بجمالية تحسّن الذوق وتنور العقل وتشيع الحسن في كل التفاصيل، حتى في أقبح الصور؟

وما ينطبق على والدة جابر، ينطبق على “مريم”، التي ظهرت في وقت متأخر نسبياً من وقت العرض، رغم وجودها الضمني بشكل رئيسي، لكنه وجود لم يضف مادياً على حضور صوتها بالهاتف المعلق، مصدر المعرفة بالنسبة للكفيف هنا – والكافي بالمناسبة -، لإيصال المعلومة بنبرة الصوت، أن “مريم سيئة” كما رددت والدته. إلا أن الرؤية الإخراجية اجتهدت أيضاً في توسيع المعلومة وترسيخها عبر مشهد البدء، الذي غنت فيه مريم مقطع الأغنية المعروف “أعطني حريتي أطلق يديّا”، في إضاءة جزئية ودخول الزوج “جابر” وهو يكمل المقطع.

تتكشف الحقائق كلها في آخر العرض، عبر إضاءة أكبر تكشف وجود العشيق –الزوج الحالي- واعتماد الزوجة أن زوجها كفيف؛ لن يرى الحدث الماثل أمامه، ونشوب حريق في المكان تدخل فيها والدة جابر وبيدها حفيدتها الرضيعة “زينب”، بطريقة التصوير البطيء السينمائية، التي لم تضف معلومة أخرى جديدة على سلوك “مريم” غير السوي. يضاف إلى ذلك إقحام اسم “كوهين” بشكل عابر في إشارة لا تحتمل الشك إلى وجود الشخصية/ الحس اليهودي، وهو أكبر مما يحتمل النص بكثير، حيث له موازينه وسياقاته التي يجب أن يخطط لها من البداية، بحيث تكون الأسماء قرينة بعضها، وعلامات متفقة أو مضادة تؤدي إلى معنى غير ملتبس بالنسبة للمتلقي، وأسماء؛ جابر/ مريم/ زينب أسماء عربية محضة، لا تتفق بدلالاتها مع كوهين، لذلك فإن عدم الاتفاق يجب أن يكون ذا معنى واضح ومرسخ بأن ثمة ما يستدعي وجوده.

من ناحية أخرى، أدبية، سيكون على المخرجين التفكير مليّا قبل إدراج مفردة إعداد، التي تستخدم لتحضير نص من جنس أدبي آخر غير المسرحية، وهذا النص مكتوب للمسرح، وكل إضافة عليه، أو تغيير، هي من باب الرؤية الإخراجية المشروعة له في النص.

ويبدو أن للموسيقى دوراً كبيراً في “عود ثقاب” منذ البداية، إذ لجأ العمل في المرتين التي قدم فيهما إلى الاستعانة بعازف الكمان، علي العليوي، الذي صاحب أداء الممثل حينها، وتتبع انفعالاته، وهنا وضع المخرج الفرقة الموسيقية المكونة من أربعة أفراد، بقيادة “زكريا الشيخ”، في صدر خشبة المسرح، وصاحب العازفون الأداء منذ بداية العرض بآلالات وترية وإيقاعية، وثيمة يبدو أنها ألفت خصيصاً لعود ثقاب، ولا يخفى على المتلقي الدور الحيوي الذي تضفيه الموسيقى الحية على العروض المسرحية في التفاعل والجذب، خصوصاً في حالة الانضباط التام، وما يثيره هذا في نفس المتفرج الذي يصله الإحساس بالمجهود الكبير الذي بذله فريق العمل في سبيل إظهار التناغم المنضبط بين الأداء والإيقاع.

ورغم جمالية الموسيقى التي لا يختلف عليها أحد، لكن هذا الاستعمال مقنن، لأنه مرهون بـ “الكيفية” التي تدير الموضوع بها. فوجود العازفين في أحد أماكن القوة على الخشبة، جعلت من تموضعهم “علامة” مثل بقية العناصر في التشكيل السينوغرافي، وهذا يعني خضوعهم للتقييم المرئي والأدائي أيضاً، في حين أن دورهم مقتصر على حاسة السمع، التي من الممكن أن يلجأ إليها المخرج بشكل تسجيلي مثل أغلب العروض المسرحية، وما يجعل الفرق بيناً بين الموسيقي التسجيلية والحية هو في توظيف المخرج لها، بحيث يكون لها دور فارق في جعل العرض المسرحي مختلفاً بالحضور الحي.

 وتستخدم بعض العروض العازفين أيضاً في متن الأداء التمثيلي، بحيث إن هذا الجزء المرئي يكون ضمن نسيج العرض، وليس مقحماً عليه. إن مشروعية التجديد في العروض، وابتكار الأفكار، متاحة طالماً تخدم الفكرة الأساسية. وفي “عود ثقاب”، عمل المخرج على صياغة موسيقى خاصة للعرض، وتحديداً لكل العرض، منذ بدايته وحتى النهاية حرفياً، أي أن الموسيقى كانت شريكاً أساسياً في الأداء، إذا ما قيس ذلك على الحجم. لكن بالفاعلية، كان وجودها عبئاً على الأداء، لأنها جاءت بمثابة موسيقى تصويرية، مثل تلك التي تستخدم في الدراما التلفزيونية، حينما تقوم الموسيقى التصويرية بفعل مصاحب وموازٍ لفعل الممثل والصورة, إذ تساعد الموسيقى على تأكيد وصول الأفكار للمتلقي عبر اللغة المنطوقة والأداء, وإضفاء روح واحدة على سائر العمل، حتى لو كان به أكثر من مقطوعة, وتكون عادة هناك “ثيمة” رئيسية تكون هي المكتسحة بالذات في مفاصل المشاهد المهمة, تعزف بشكل كامل حتى تترسخ في أذهان الجمهور, ثم يمكن أخذ جزء منها واستخدامه كتنويعة على مشاهد أخرى، وبتوزيع جديد على آلة أخرى غير المستخدمة في الثيمة الرئيسية. لذلك لها سياق آخر بحكم اختلاف التقطيع في المشاهد، والوصل بينها، وغيرها، من استخدامات تختلف تماماً عن استخدامها في المسرح، لكنها طبقت في هذا العرض فغطت على المشاهد التي كان لابد أن يبرز فيها الأداء التمثيلي أكثر من أي عنصر آخر.

عود ثقاب هي محاولة شبابية جيدة لخريجَيْ المعهد العالي للفنون المسرحية -المشرف العام والممثل الرئيسي- اللذين ينحتان طريقهما مع بقية الطاقم في العرض، بدءاً من اختيار نص لكاتب بحريني، تعزيزاً لدور المؤلفين المحليين، وليس انتهاء بتقديم عرض قدم أكثر من مرة سابقاً، غير عابئين بخطورة المقارنة، وفي ذلك جسارة تحسب للعرض والقائمين عليه، لكن أية تجربة في الحياة تحتاج لتخطيطها بشكل جيد، وبحرص شديد، يجعل من العرض مادة شيقة، وفرجة بصرية ممتعة، بالإضافة إلى مضمون مناسب لمعايير المجتمع، ومحاولة إحداث تغيير إيجابي فيه.

المراجع:

  •  النظام الأساسي في الجريدة الرسمية العدد 2691/ الأربعاء 15 يونيو 2005م، ص 25

لمشاهدة العرض كاملا:

طاقم العمل: تأليف جمال الصقر/ إخراج عبدالرحمن بوصابر/ تمثيل: عبدالرحمن بوصابر،فاطمة العلي، هبة قطب، فيصل الخلاصي/ إشراف عام عبداللهو الدرزي