حاورته: سوسن حسن
خلال عدة فعاليات ساهمتُ في تنظيمها عندما كنت أعمل في المركز الفرنسي في البحرين، التقيت بفنانين لفت ابداعهم نظري، ومن ضمنهم الفنان الشاب محمد المرباطي. تساءلت عن سر شغفه وهوسه بالموسيقى. ليس لأنني مستمعة جيدة فشلت في دروس الصولفيج وحسب، بل كذلك لنجاحه خلال فترة وجيزة في تأليف مقطوعات موسيقية راقية ومحاكاة السامع بأنغام موسيقاه.
لم نكن نريد التوقف عن الانتشاء بالموسيقى خلال آخر أمسية موسيقية جمعتنا به والفنان عبدالله الصفار، عندما تقدمت موظفة الجهة المسؤولة لتذكر محمد بأنه لم يتبق لهم سوى مقطوعة موسيقية واحدة قبل دعوة المدعوين على العشاء. استمعنا الى آخر مقطوعة في انسجام تام مع عالم محمد وعبدالله الموسيقي، ثم توقف العزف وطالبنا بالمزيد، فكانت لنا تلك الاستجابة بألبوم جديد، أطلق عليه محمد المرباطي عنوان “يحدث الآن” ، وخضنا على شرفه الحوار الآتي:
- حدثنا عن علاقتك مع الموسيقى. كيف بدأت و كيف تطورت ؟
العلاقة بدأت منذ الصغر. أذكر جيداً عندما كنت في الثامنة أو التاسعة من عمري، كلما تواجدت في مكان، تكون الموسيقى سبّاقة في جذبي أو لفت انتباهي. كنت أدندن ما أسمعه. يبقى أثر الصوت في أذني حتى وإن ابتعدت عن المكان. أتذكر أيضاً عندما كنت أتنزه مع عائلتي وعيني تلتقط آلة موسيقية، أتوجه إليها مباشرة، أقوم بلمسها ومحاولة اكتشاف الأصوات التي تخرج منها. أتذكر جيداً الأسئلة التي كانت تدور في ذهني، تلك الأسئلة الطفولية العفوية: لماذا يحتوي الجيتار على ستة أوتار؟!. لماذا توجد ثلاث دواسات أسفل آلة البيانو؟! أتذكر عندما يقرر أبي التنزه في أحد المحال أو المجمعات التجارية، دائماً كنت أتساءل وأتمنى أن يكون البيانو موجوداً في هذا المحل. يحدث أن تخطر على بالي جملة وأتفاجئ بنفسي إن قمت باستذكرها وتكرارها.. تبقى في ذهني، فأقوم بعزفها في اليوم التالي.
زاد تعلقي أكثر فأكثر، فقررت في الثانية عشر من عمري، بعدما وصل التعلق ذروته، أن أشارك أسرتي قرار شراء بيانو أو “أورج”. في البداية رفضوا، لكن بعد إلحاح شديد وبكاء، وافقوا على شراء “أورج” صغير. أذكر بأن أعداد المفاتيح كانت قليلة و لم تتجاوز ال 32 مفتاحاً، لكنني كنت سعيداً بوجوده في الغرفة. بالإضافة الى ذلك، كنت مستمعاً جيداً وأستمع بشكل كبير إلى الأغنيات التي تذاع عبر الراديو، و كنت أستاء من كثرة الحديث وقلة الموسيقى، وأحرص على شراء كاسيتات فارغة من البقالة لتسجيل ما يذاع على الراديو.
تطورت هذه العلاقة أكثر.
ما زلت أذكر تخيّل الآلات الموسيقية و القيام بدندنة الأنغام، حيث كل آلة تقول جملة مختلفة عن الأخرى ثم القيام بتسجيل كل جملة أتخيلها، على شكل طبقات، صوت فوق صوت. كانت الإمكانيات في التسجيل متواضعة جداً، ومع توفر الانترنت في المكتبات أو محال الحاسوب، كنت أذهب هناك وأبحث عن كل مايتعلق بالموسيقى لكثرة الأسئلة في ذهني.
أخذت علاقتي مع الموسيقى منحى أكثر جدية لدى دخولي الجامعة، وكان للمؤلف الموسيقي محمد حداد أثر كبير في معرفتي وتذوقي ونضجي يوماً بعد يوم، ليس في الموسيقى و حسب، و إنما في التعرف على حصة كبيرة من الفنون الأخرى كذلك. أعتبره الأب الروحي لي في الحقيقة. أتذكر أيضاً اعتمادي على نفسي في البحث والقراءة حتى الآن و ان جئنا للحقيقة، أعرف أن عملية البحث والمعرفة الموسيقية هذه لن تنتهي أبداً، وأنني سأظل أتعلم و أتمرن.
- ألبوم ” الوضع الآن” هو آخر إصدار فني لك. ماهي فكرة هذا الألبوم ؟
مشروع “الوضع الآن” هو نتاج لتجربة نفسية شخصية مع جائحة كوفيد 19. وهو أيضاً مشروع تخرجي من جامعة البحرين بدرجة بكالوريوس تخصص الإعلام (الإعلام الرقمي)، وهو عبارة عن ألبوم قصير يتضمن ثلاث مقطوعات موسيقية. و هي محاكاة موسيقية لانطباعات شخصية عن الوضع الذي يشهده العالم بسبب فيروس كوفيد 19 ومدى تأثيره النفسي على الإنسان. أستطيع القول بأن الألبوم نتاج لتراكمات نفسية مرتبطة بالخوف، الفقد، العزلة. مراقبتي لما يحدث من حولي، مراقبتي لإنفعالات وانطباعات الأطفال العفوية التلقائية المضحكة والحزينة في ذات الوقت في محيط الأسرة والأصدقاء.
هذا الألبوم هو انعكاس كذلك لإنعزالي مدة طويلة من الوقت في غرفتي أيام الحجر،أصوات الأخبار في التلفاز، الأخبار في محيط العائلة والأصدقاء. هو استذكار لخبر فقد عزيز أو قريب لي بشكل متتالٍ، و أتذكر نافذة غرفتي ومراقبتي لشروق الشمس منتظراً ذلك الأمل في الخروج من هذه الجائحة. كل هذه المشاهد كانت دافعاً كبيراً لهذا النتاج. تُرجم ذلك من خلال ورشة تقاطعت فيها الموسيقى مع الرؤية البصرية بالتعاون مع الفنان التشكيلي علي حسين ميرزا ليقوم الفنان حسين سلمان بتوثيق هذه اللحظة بالصورة.⠀⠀
- لماذا اخترت هذه العناوين للمقاطع الموسيقية: “يحدث الآن”، “طفولة”، “أمل” ؟
عنوان “يحدث الآن” يعكس ترجمة لمجموعة من المشاعر المختلطة بين الخوف، الغضب، الإنتظار، الأمل، الوضع المبهم. أما عن العنوان “طفولة” فهو محاكاة لانطباعات ستة أطفال عن الجائحة، أسئلتهم العفوية، عزلتهم، خوفهم. “أمل” هي الترياق، يد الله التي تمسح حزن الناس، الضوء الذي كنت أراه في نهاية الطريق.
- في بداية المقطع “يحدث الآن”، نسمع أصواتاً مختلفة. إلى ماذا ترمز الضوضاء المصاحبة للموسيقى؟
نعم. هناك جانب فني وجانب علمي في توظيفي لهذه الضوضاء، إنها آلة الكمان ونغماتها المتحشرجة التي تجسد الفيروس نفسه في المقطوعات الثلاثة؛ فهي الآلة المناسبة من حيث امتيازها بتعدد التعبيرات في تقنيات العزف وتجسيد الأبعاد النفسية الناتجة عن مراحل تكون الفيروس في الجسم. وجاء ذلك من خلال بحثي وقراءتي لمقالات علمية في موقع الBBC متعلقة بفيروس كوفيد-19.
- لماذا الجمع بين الموسيقى والفن التشكيلي، و ما هي دلالة اللوحة الفنية المعروضة في نهاية الألبوم ؟
الفن التشكيلي بالنسبة لي هو القراءة الأخرى أو التأويل البصري الأكثر ملائمة للموسيقى. حيث يفتح أفق أوسع في ترجمة الفكرة الموسيقية بصرياً، بالنسبة لدلالة اللوحة الفنية الموجزة فهي نتاج لحالة تقمص الرسام مع حالة كل مقطوعة ويمكننا القول بأنها تعبيرات بشرية انفعالية ناتجة ومتزامنة مع انفعالات المقطوعات الموسيقية.
- في رأيك، هل الموسيقى محصلة مجموعة من الفنون؟
نعم، أعتقد بأن الموسيقى بإمكانها أن تحاكي جميع الفنون، فالموسيقى غنيّة بالأدوات والأساليب والألوان التعبيرية التي تؤهلها لتتقاطع مع الفنون الأخرى، كالشعر والسينما والفنون التشكيلية وغيرها.. يمكنني القول أيضاً بأن مساحة التأويل والحرية الإبداعية التي توفرها الموسيقى أكبر بكثير من الفنون الأخرى.
- تعودنا على أن تصاحبنا الموسيقى في ساعاتنا اليومية. ما هو بالنسبة لك يوم من دون موسيقى؟
بعيداً عن المبالغة، أختنق أحياناً. الموسيقى جزء مهم في يومي. لا يخلو يومي من أي شيء يتعلق بالموسيقى إن كان استماعاً أو قراءة أو عملاً أو تمريناً. ولكن أحياناً أحتاج للصمت؛ وخاصة بعد مدة من العمل على المشاريع الموسيقية أو تذوق الأعمال الفنية أو القراءة. أعتقد بأن الصمت مهم لأذن وذهن الفنان أو الموسيقي.
- في النهاية، ما هي الرسالة التي تريد إيصالها من خلال هذا العمل الفني؟ الى من تدين بالشكر ؟
تم ابتكار هذه الفكرة إيماناً مني في أن الموسيقى قادرة على ترجمة الإنفعالات النفسية الشخصية الناتجة عن هذه الجائحة. أشكر جميع من ساهم في هذا المشروع. أشكر الفنان علي حسين ميرزا على إيمانه بالفكرة.. أشكر صديقي حسين وعدسته التي وثَّقت هذه الحالة… أشكر الدكتورة أماني الحلواجي على توفيرها المساحة الإبداعية والإبتكارية لي كطالب جامعي. أشكر الأطفال المشاركين وعفويتهم في هذا المشروع… أشكر أولياء أمورهم على إيمانهم وثقتهم في هذه التجربة.