هناك مقولة لعلي الوردي في كتابه “خوارق اللاشعور”، تقول: “إن معظم رجال الدين ينظرون إلى الله كما ينظرون إلى حاكمهم السياسي، لذلك نجدهم يهتمون بالشعائر والطقوس أكثر من الاهتمام بصفاء القلب وسلامة العمل والنية”. فاعترضها صديقي محمود الجابري قائلا: “ألا يمكن الوصول لمرحة التوازن؟ ألّا نتحيز لطرف؟ أن نعبد الله حق العبادة، وأن نهتم بسلامة الصدر والنية معًا؟ فالتاريخ يشهد لكثير من المفكرين المسلمين ورجال الدين يقفون ضد هذه الطريقة في التعاطي مع الله، ومن الظلم التعميم”.
أشرت لصاحبي أن مقولة الوردي لا يفهم منها الفصل أو عدم الجمع بين الأخلاق وأداء الطقوس الدينية، بل إلى أي جهة تميل الكفة. توجد حكمة قديمة يرددها أجدادنا بأسلوبهم البسيط، مفادها أننا لا يمكن أن نمسك بتفاحتين في اليد الواحدة، ستسقط منا إحداهما أو سنقبض على واحدة دون الأخرى بشكل أقوى. أقول لمحمود: لو خُيِّرتَ بين صديقين أحدهما يتفق معك في الدين، ويختلف معك في الطبع والخلق، وآخر يتفق معك في الطبع والخلق ويختلف معك في الفكر والدين، فأيهما ستفضل. أجاب دون تردد: لا ضرورة أن يتفق معي في الفكر. قلت: وأنا كذلك.
لكننا لو عدنا للأسلوب التربوي عندنا، فإننا نجد النموذج الأول يطغى على النموذج الثاني، فقد نتعامل مع أبنائنا بطريقة لا أخلاقية لأنهم لا يؤدون الشعائر في وقتها، وقد لا نقدم النموذج الأخلاقي المطلوب في الحياة العملية، إلا أننا نأمرهم بالالتزام بالنموذج الطقوسي المطلوب، لأنه أسهل الطرق وأقصرها إلى الله.
إن رجال الدين قسمان أيضا. وإني أتفق مع الوردي في مقولته، رغم وجود أمثال موسى الصدر الذي لم تمنعه عمامته أن يصادق العلمانيين نساءً ورجالًا، والسيد محمد حسين فضل الله الذي دافع عن صديقه حسين مروّة ضد مُكفريه، وكان الأخير قد خلع لباس الدين، وأخذ يؤرخ للتاريخ العربي الإسلامي تأريخًأ أكاديميًا ماديًا ليقدم لنا قراءة تاريخية معاصرة في كتاب “النزعات المادية”، لكنهم في النهاية قتلوه. ونادرًا ما يحدثنا أحدهم كما حدثنا الوائلي قائلا إن الرابطة الإنسانية والأخلاقية هي التي تجمع البشر، وحين نقدّم الرابطة العقائدية عليها، فإن خللاً يحدث في إنسانيتنا وتشوه في ذواتنا، وإذا اتفقوا مع الوائلي وجدت سلوكهم يخالفه. وكان الفخر الرازي في تفسيره للآية: “وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون” يقول بأن الله لا ينزل عقابه على قرية لمجرد كون أهلها مشركين، بل يحدث ذلك حين يُفسدون في المعاملات، والعكس صحيح، قد ينزل عقابه على قوم مسلمين إلا أنهم لم يُصلحوا في المعاملات، فالسعة والرحمة واسعة عند الله في حقوقه إلا أنها شديدة مع حقوق الناس. فهذه سنة كونية، إذا عم الظلم بادَتْ الأمم.
ولكن هذا الصوت الأرقى معرفيا، والأكثر سعةً يندرُ بيننا اليوم، ففي حديث لنا في مجلس سأل أحدهم: لماذا يقول الفقهاء بأن التائب عليه أن يعيد جميع صلواته السابقة التي لم يؤدِها عندما كان بينه وبين دِينه جفوة. قال أحدهم: هذه حقوق الله ولا تساهل فيها. فنقلت قصة للقشيري قلت فيها إن الآراء مختلفة في هذه المسألة، لكن الصوت الأبرز اليوم هو ما ذُكر. ومفاد القصة، أن الجنيد الصوفي دخل على شيخه سُرَي السقطي فوجده متغير الحال. فقال له: ما لك؟ قال: دخل علي شاب فسألني عن التوبة، فقلت له: التوبة ألا تنسى ذنبك. فاعترضني قائلا: بل التوبة أن تنسى ذنبك. قال الجنيد: أقول ما قاله الشاب. فقال السُّري: لِمَ؟ قال: لأني كنت في حال الجفاء، فنقلني إلى حال الصفاء. وذِكر الجفاء في حال الصفاء من الجفاء. فسكت السُّري. المتصوفة ينظرون إلى الله كمحبوب، وأنت إذا تصافيت مع المحبوب لا تعكر صفوه بذكر أيام الجفاء بينكما. إنهم يسهلون على الإنسان فتح الصفحات الجديدة مع ربهم. إلا أن رجال الدين لتقديمهم صورة الحاكم الجبار العنيد، على الرحمن الرحيم الحبيب، يعقدون تلك البدايات، وقد يساهمون في رجوع الإنسان عن أمره.
هذه هي النظرة العامة لرجال الطوائف مهما حاولنا تجميلها، ولو تتبعنا التاريخ الإسلامي لوجدنا الصراع فيه قائم على جبهتين، الأولى: حاكم يحكم باسم الله – ويحتكر صورته فيه – وله فقهاء يكفرون الناس باسم الله والحاكم، يقابلها معارضة متنوعة في أفكارها تريد التحرر من تلك السلطة السيا-إلهية، لكن معظمها يريد التحرر من تلك السلطة ليحتكر ذلك الحق، وتُعاد الكَرَّةَ مرة أخرى. والثانية: جبهة صراع بين رجال الطوائف، وسلطتهم الدينية المحكومة بأدبيات علم الكلام التي تقسم الناس لأهل ضلال وأهل حق، يقابلها الفلاسفة والمتصوفة الذين يعملون على تحرير الله من الطرق الأحادية لعلم الكلام لنتمكن من رؤيته في الأضداد، يقول النفري في المواقف: (إذا رأيتني في الضدين اصطفيتك لنفسي).
لطالما حرك رجال الدين الحُكّام والغوغاء ضد فيلسوفٍ ما، فقُتِل السهروردي، وابن المقفع، والحلًاج، وصودرت كتب ابن رشد، وكُفر ابن عربي. وإذا لاحظنا العالم العربي بصورة واسعة: تونس، المغرب، الخليج العربي، لوجدنا رجال الدين لا زالوا يؤلبون العامة على مفكر ما دون أن يقرأوه كما رأينا مع قاتل فرج فودة الذي يجهل سبب تكفير المقتول، وكما فرقوا بين نصر حامد أبو زيد وزوجته، وصادروا رواية “أولاد حارتنا” لسنوات في مصر.
إن هناك صراعاً دائماً بين احتكار السلطة والمعرفة – الله/الحق – وبين تحريرها من قبل أهل الفكر كما فعل المتصوفة والفلاسفة. إن وظيفة التصوف والفلسفة تكمن في تحرير الإنسان من السلطات على أنواعها، فما دام هناك سلطة لا يوجد حب، بل أسياد وعبيد، حُكّامٌ ومحكومون، وهذه هي علاقتنا مع الحاكم والله من دون الفلسفة والتصوف اللذان يؤلهان الإنسان ويؤنسنان الآلهة، ينزلان الحاكم للمحكوم، فيصير الشعب مصدر للسلطات، يُحاكم السلطات وتُحاكمه، ويشارك في اتخاذ القرار. يصبح الوطن ليس الحاكم كما هو في الذهنية السلطوية، بل الشعب، فقراء الوطن، ترابه، بحره، بيوته، وماؤه. كل شيء يمتلئ بالوطن، وكل شيء يمتلِئ بالآلهة.