أن تختار البحرين

0
45

لولوة حسن محمد

ماذا نسميه؟ من يُخير بين السجن أو النفي، ويختار أن يستغني عن حريته حتى لا يترك تراب الوطن!

أمناضلاً نسميه أم مجنوناً؟

لقد كان والدي مفتوناً .. مفتوناً بالبحرين التي اختارها لتكون أمه .. وهو الذي لم يحظ بحنان الأم التي فقدها قبل أن يكمل السنتين من عمره.. أبي الذي كسر قاعدة “فاقد الشيء لا يعطيه!” كان بحراً من الحنان في هيئة إنسان. 

كان يُقدّس تراب هذه الأرض بكل ما تحمله الكلمة من معنى؛ مؤمناً بأن لا شيء يستحق الكفاح من أجله سوى الوطن.. والدي اليساري حتى النخاع الذي قضى حياته كلها يعطي ولا يأخذ.. هو أكثر من عرفت نبلاً وشهامة.

قبل عدة أعوام، عاد أبي ليختار البحرين مرة ثانية حينما سنحت لي الفرصة لنيل وظيفة مرموقة في دولة الكويت طلبت منه أن ينتقل هو وأمي معي.. لما قد تكون بالنسبة لي فرصة العمر، وفاجأتني الإجابة.. إذ كنت أظنّ بأنه لن يقدر على فراقي! فقال: “يا بنتي إلا هوى الديرة، ما أقدر أعيش بره البحرين.. أموت” لم أتوقع أن يختار البحرين على ابنته.. واخترت أنا الأخرى البقاء بقربه..  

كم كنت أغار كثيراً من حبه المفرط للبحرين وأغار أكثر من قلبه المتيم بأمي.. كيف لا يكون؟ وهي من انتظرته طويلاً حتى عاد إليها من “الجامعة” كما كان ورفاقه يسمون تلك المرحلة من حياتهم.. أمي حبيبته التي اختارها ليؤسس معها عائلة شريطة أن يترك دهاليز العمل السياسي.

جاء زواجه من أمي التي لا يكف يوصيني وأخوتي: “تحملوا في أمكم” كتميمة يومية يرددها منذ كنا صغاراً .. ليكون نقطة التحوّل في خط حياته.. كرس أبي كل حياته بعد السجن لأسرته الصغيرة.. كنا هاجسه الأول.. أن يربينا على المبادئ الإنسانية في العطاء والتسامح، والمحبة.. فلم نعرف عنه قط أن تخاصم مع أي إنسان أو حتى ذكر شخص بسلبية.

علمنا كيف نكون أخوة بحق، فلا يبات منا واحد وفي قلبه شيء على الآخر.. كان يعمل ليل نهار.. ليوفر لنا كل أسباب الهناء والرفاهية.. نشأنا نذهب للنادي، ونمارس هوايات متنوعة.. من نادي بابكو إلى مركز سلمان الثقافي إلى المركز الثقافي البريطاني.. هو يملك عصاة الساحر ويحقق لنا كل ما نتمنى.

أذكر في طفولتي أنه كان يقرأ لنا بصوته الجهوري الجميل من مكتبته الثريّة والمتنوعة مواضيع كانت خارج فكرنا وسابقة لعمرنا.. وطالما كان يسبقنا النعاس لكنه في الليلة التالية يكمل حيث انتهى.. لقد شكّل والدي الوعي لدينا منذ الصغر ليصبح لكل واحد فينا فكرٌ خاص به.. لدرجة أننا نشأنا نظن بأن أحد مسلمات الحياة أن يكون للمرء فكره المستقل!

لم يكن والدي كلاسيكياً بفكره ولا حتى بهندامه.. كان في كل شيء يقوم به مختلفاً.. أذكر محاولاتنا المستميتة لإقناعه بدفع فاتورة الكهرباء إلكترونياً وكان يرفض رفضاً قاطعاً ويصر على الدفع بالحضور الشخصي خوفا على الموظف من أن يفقد وظيفته وبالتالي تتأثر الأسرة التي يعيلها.. وفي سنواته الأخيرة كان يحمل عكازاً دون حاجة حقيقية له ويصر على تعليق شعار البحرين أعلى جيب ثوبه بجانب قلبه.. ولطالما كنت امازحه “شفيك يبا؟ تبي جواز؟”

وفي آخر أيام حياته كان والدي ينام طويلاً، وكنا نقضي فترة الزيارة في المستشفى بقربه نتحدث مع بعضنا البعض بينما هو يستمع لنا مغمضاً عينيه.. هكذا كان طبعه هادئاً قليل الكلام.. ما كنا نعتقد بأنه مجرد إلتهاب بسيط سيزول في أيام معدودة بعدما يبدأ مفعول المضاد بالتأثير إنقلب بين ليلة وضحاها.

وفي صباح آخر يوم كان لا يزال أبي في وعيه استقبلنا مرتدياً ثوبه.. فبادرته: “بابا أريح لك ثياب المستشفى عشان الفحوصات”، فجاوبني: “أنا مستحب اليوم أكشخ بالثوب”، ثم سأل أخي عن شعار البحرين والذي نسيت أنا في غفلة مني أن أضعه حيث يحب أبي بجانب قلبه.. معتقدة بأن لا حاجة له به وهو بتلك الحال!

كان ذلك درسه الأخير لنا.. هو المجنون بحب الوطن.. أحبوا البحرين حتى آخر العمر..