تمر العديد من الدول العربية بأزمات اقتصادية حادة تدفعها إلى وضع إستراتيجيات لتخطي هذه الأزمات، فتجد نفسها تتجه إلى المؤسسات الدولية وأبرزها صندوق النقد الدولي للحصول على المساعدات المالية والقروض في خطوة تزيد من فشل هذه السياسات وتزيد من العبء على عاتق هذه الدول، فيكون التقشف وانهيار العملة والنسب القياسية للتضخم أهم ملامح الإجراءات الإقتصادية المرتبطة بأي برنامج إصلاحي اقتصادي يعمل تحت مظلة صندوق النقد الدولي، الذي يلجأ بدوره إلى وضع شروط صارمة للموافقة على دعم الدولة، فيرى البعض هذه المؤسسة متغطرسة بتعاملها، تسعى لفرض إرادتها على الدول بدون اعتبار للظروف الداخلية لكل دولة، فاورثت شعوبها فقراً مدقعاً، وعوزاً في بعض الأحيان ناتجاً عن سياسات التقشف الذي تفرضها ورفع الدعم الحكومي عن السلع ولا سيما الأساسية وتسريح العاملين.
وقد يتفق الأغلبية على أن الاثار السلبية لدخول الصندوق في أية دولة متشابهة إلى حد كبير. ولكن وبكل تأكيد، كما ذكرت ربى بوغادر في مقال نشر على موقع “الاقتصاد”، فإن الصندوق لا يتعامل معاملة واحدة مع كل الدول التي تطلب الدعم منه، فأحيانا يكون سخياً ويوافق على برامج إصلاحية لا تتضمن إجراءات تقشفية حادة كالمعتاد، وأحيانا أخرى لا يكون بنفس درجة السخاء، بل يفرض كذلك شروطا قاسية، على الرغم من حاجة الدولة الماسة لهذا الدعم.
ومن الواضح أن سخاء هذا الصندوق لا يظهر في الشرق الأوسط، والتجارب خير دليل فالكثير من دول المنطقة عملت في السابق، أو تعمل حاليا على برامج إقتصادية تحت مظلة الصندوق، الذي يتعامل بدوره معها بحزم ويفرض شروط قاسية، أججت الإحتجاجات الشعبية المنددة بالواقع المعيشي وبتدهور الأوضاع المعيشية، ولعل تجربة مصر وتونس والأردن والسودان خير دليل، لكن في المقابل ثمة تمييز واضح في معاملة صندوق النقد الدولي مع الدول. أي يمنح الصندوق القروض لدول دون أخرى.
ووفقا لتحليل الخبير الاقتصادي الاردني مازن مرجي أن الدول العربية الفقيرة وخاصة تلك التي ليس لديها ثروة نفطية أوخلافه تغنيها عن الاقتراض الخارجي مثل تونس ولبنان، فإنها ونتيجة ما تعانيه من مشكلات إقتصادية متفاقمة بسببب السياسات والبرامج الاقتصادية والمالية والنقدية وحتى السياسية والاجتماعية غير السليمة والتي أدت إلى تراجع مستويات المعيشة وضعف الإنتاجية وغياب القدرة على إستغلال ما تتمتع به من ثروات أو موارد طبيعية وبشرية بل والإخفاق في إحداث التنمية الإقتصادية المناسبة وتحقيق نسب النمو الضرورية للمحافظة على حيوية الاقتصاد وقدرته على خلق الفرص الاستثمارية اللازمة للتوسع في الإنتاج ومن ثم خلق فرص العمل وزيادة قيمة الصادرات.
أدى كل ذلك، إضافة لتفشي الفساد على أشكاله في كل جوانب الحياة العامة الاقتصادية والإدارية والاعباء غير المحدودة التي فرضتها الصراعات الإقليمية والعالمية بتلك الدول إلى طرق أبواب البنك وصندوق النقد الدوليين، لاستجداء القروض والمساعدات تحت جو من خداع النفس بأن الحل السحري هو في جعبة تلك المؤسسات الدولية التي أُنشئت أصلا خدمة لسياسات ومصالح اقتصاديات الدول الغنية القوية التي تسيطر وتسير عليها وتستخدمها في تحقيق غايتها واغراضها الوطنية على حساب الدول الفقيرة.
ولذلك ثمة معضلات رئيسية وخطيرة أصبحت تلازم اقتصاديات هذه الدول الفقيرة ومن ضمنها دول عربية عديدة، حيث الفقر والبطالة والتضخم والعجز في الموازنة، وتراجع القوة الشرائية بسبب تدني الأجور ونسب التضخم غير المسبوقة التي جعلت من تحقيقق أي نمو اقتصادي إيجابي واضح ضرباً من المستحيل.
أدى كل ذلك إلى تبني هذه الدول لسياسات وبرامج قاسية فرضها عليها صندوق النقد الدولي، مقابل اغراقها بالديون ، حيث تراكمت القروض لتصل المديونية الخارجية والداخلية منها إلى نسب وصلت إلى ما يقارب مئة بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي، وكل ذلك تحت مسمى الإصلاح وتبنت سياسات جبائية عميقة أدت إلى زيادة الضرائب وتنوعها بشكل قصف ظهر مواطني تلك الدول الذين حرموا من الحصول على دعم لحاجتهم الأساسية من غذاء ودواء وتعليم وبنى تحتية.
إن الدول العربية وغيرها من الدول التي ارتمت في أحضان صندوق النقد الدولي، وباقي المؤسسات المالية والبنوك العالمية تحت حلم التخلص من المشكلات الإقتصادية ألتي تعاني منها من جانب وطمعاً لتحقيق النمو الاقتصادي المطلوب الذي يمكنه المساهمة في التنمية المستدامة ومن ثم الازدهار، لكن ثبت وبصورة لا تدع مجالا للشك بأن هذا النهج قد فشل في تحقيق الاصلاحات المطلوبة، وأن يكن قد نجح في منع الإنهيار في جوانب محددة أوفي التخلص مما سمي بعض التشوهات في هياكل وآليات العمل المالي والاقتصادي والسياسات النقدية، إلا أن النتيجة الأبرز التي تحققت لشعوب الدول المقترضة هي المديونية العالية، أي أصبحت سياسات الاقتراض هي عبء ثقيل جدا، نجمت عنها نسب عالية من البطالة ومستويات الفقر، وكذلك أدت إلى تآكل المداخيل وإنهيار أو تراجع القوة الشرائية للعملات الوطنية، وتهاوى معدلات صرفها مقابل العملات الصعبة.
ويبدو مما سبق، أن تعامل صندوق النقد الدولي مع الدول الأعضاء يرتكز بالدرجة الاولى على أهمية هذه الدول أو تلك في خدمة مصالح الدول الممولة والمسيطرة على هذه المؤسسة وأيضا على عمق المشاكل والمصاعب الاقتصادية التي تعاني منها الدول، وبالتالى مدى تعاونها او استعداد حكوماتها لقبول اشتراطات الصندوق وقدرتها على تمرير وتطبيق التشريعات وتبني السياسات التي تخضع مواطنيها لإرادة الصندوق وبالتالى القدرة على إطفاء أي احتجاجات او معارضة شعبية محتملة مما يتيح له الوصول إلى مآرب وغايات القوى العالمية ذات المصلحة والنفوذ في هذه الدول الفقيرة او التي تم توريطها واستغلالها، وبالتالي استلاب إرادتها وقرارها الوطني المستقل.
About the author
كاتب بحريني وعضو التقدمي