الحرب البارِدة الجديدة على الصين (3)

0
10

بقلم : John Bellamy Foster

ترجمة : غريب عوض

“النظام المُستند على القواعد والأحكام” والإستراتيجية الإمبريالية الأمريكية الجديدة الكُبرى

المُنظِر الأمريكي الأول للنظام الدولي القائم على القواعد والأحكام هو G. John Ikenberry، أُستاذ السياسة والشؤون الدولية في جامعة برينستون وعضو مجلس العلاقات الخارجية، الذي كان لِعمله تأثيراً قوياً على إدارة الرئيس جو بايدن. في مقال شهير في عام 2004 حول “الليبرالية والإمبراطورية”، على الرغم من عدم إنكار Ikenberry أن ماضي الولايات المتحدة وحاضَرُها قد تميّز في كثير من الأحيان بالهيمنة الإمبريالية (حتى أنهُ ذهب إلى حد الاستشهاد بمؤرخين يساريين رائدين مثل William Appleman Williams و Gabriel Kolko و Joyce Kolko) مع ذلك جادل بقوة ضد أولئك الموجودين في دوائر السياسة الخارجية الأمريكية الذين اعتقدوا أن الولايات المتحدة يجب أن تتعامل علانية مع نفسها على أنها إمبراطورية. وجادل Ikenberry في ذلك الوقت بأن استراتيجية الهيمنة الأكثر فاعلية تتمثل في الإستفادة من اللحظة أحادية القطب لتأسيس نظام دولي قائم على القواعد والأحكام من شأنهِ أن يُؤمّن الهيمنة الأمريكية والغربية على العالم كأمر واقع في المُستقبل، حتى في مواجهة الإنحدار النهائي لقوة الولايات المتحدة.

عندما أصبح صعود الصين التاريخي أكثر وضوحاً، كتب Ikenberry مقالاً عام 2008 في مجلة الشؤون الخارجية حول “صعود الصين ومستقبل الغرب”، أصرَ فيه على أن “النظام الرأسمالي المُعولم” والنظام الدولي الليبرالي الغربي يمكن الحفاظ عليهما فقط إذا أفسحت الهيمنة الأمريكية المُباشِرة المجال للنظام القائم على القواعد والأحكام الذي يفرضهُ الثقل الجماعي للولايات المتحدة مع حُلفائها الرئيسيين. وبهذهِ الطريقة، يمكن تأمين نظام ليبرالي مُهيمن بقيادة الولايات المتحدة إلى أجل غير مُسمى. كما قالت وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة هيلاري كلينتون، كان من الضروري منع ظهور “عالم مُتعدد الأقطاب” من خلال إنشاء “عالم مُتعدد الشُركاء” بدلاً منهُ، وهو مجموعة من التحالُفات والشراكات التي تقودها الولايات المتحدة والتي من شأنها أن تضمن استمرار هيمنة واشنطُن في القرن الواحد والعشرون.

وجد هذا المفهوم للنظام القائم على القواعد والأحكام كوسيلة لتنظيم ثورة مُضادة عالمية دعماً قوياً من الحزبين في الولايات المتحدة، والأهم من ذلك، داخل البنتاغون وزارة الدفاع الأمريكية. فبالنسبة لوزير دفاع الرئيس ترامب، James N. Mattis (المعروف بإسم Mad Dog Mattis)، في حديثه إلى وزراء الحكومة ورؤساء الأركان المُشتركة في 20 يوليو 2017، “كانت أعظم هدية تركها لنا الجيل الأعظم هي القواعد والأحكام القائمة على النظام الدولي بعد الحرب، وهو ما أوضحه بالإشارة إلى “التمثيلات الملونة لحلف شمال الأطلسي، وأسواق رأس المال، والصفقات التجارية المُختلفة التي وقعت عليها الولايات المتحدة،” ليس من أجل القانون الدولي بالتأكيد، وليس نظام الأمم المتحدة، بل بالأحرى من أجل النظام الليبرالي الإستراتيجي الدولي الذي تُهيمن علية الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي.

وبالتالي، فإن المركزية في المفهوم الكامل للنظام الدولي القائم على قواعد الهيمنة وفقاً لرأي Ikenberry، هو التغلُب على نظام قائم على الأُمم المتحدة موجه نحو المُساواة في السيادة بين الدول والعالم مُتعدد المراكز، والذي يضم الصين و روسيا كعضوين دائمين في مجلس الأمن. وبدلاً من ذلك، فإن النظام الدولي القائم على القواعد والأحكام يهدف إلى تقنين التغييرات التي أُدخِلت في التسعينيات، وأنشأ “الطابع العرضي للسيادة”، بحيثُ يكون للقوى العُظمى حقاً وحتى إلتزاماً أخلاقياً بالتدخل في الدول المُضطرِبة لمنع الإبادة الجماعية والقتل الجماعي. وكتب قائلاً، “أن تدخُلات حلف شمال الأطلسي في منطقة البلقان والحرب ضد صربيا، هي أفعال مُحددة من هذا النوع.” وأصبحت عقيدة الإمبريالية الإنسانية القائمة على “الحق في الحماية” مفتاحاً لتعريف النظام الدولي القائم على القواعد والأحكام.

تمّ توضيح هذه الفكرة للطابع العرضي للسيادة من قِبل Richard Haass، نائب سكرتير الدولة لسياسة التخطيط في رآسة George W. Bush والرئيس الحالي لمجلس العلاقات الخارجية، الذي شرح بأن التحول إلى مفاهيم أكثر محدودية للسيادة يعكس وجهة النظر المُهيّمنة الجديدة بأن “السيادة ليست شيكاً على بياض. بل أن الوضع السيادي يتوقف على وفاء كلُ دولة ببعض الإلتزامات الأساسية، سواء تجاه مواطنيها أو تجاه المجتمع الدولي. وحينما يتعذر على نظام ما الوفاه بهذهِ المسؤوليات أو يُسيء إلى صلاحياتهِ، فإنهُ يُخاطر بمصادرة إمتيازاتهِ السيادية، بما في ذلك، في الحالات القُصوى، حصانتهِ من التدخل المُسلح. وحين يعود الأمر إلى التدخل المُسلح، كما جادل Haass في مكان آخر، فإن الولايات المتحدة هي “عُمدة” النظام الدولي المُعيّن ذاتياً، في حين أن ما تبقى من الثالوث هو “حشد.” بالرغم من أن الولايات المتحدة اشتكت مؤخراً من العدون الصيني  وتهديده العالمي المتزايد، نظراً لقاعدتها العسكرية الأجنبية الوحيدة الموجودة في جيبوتي في أفريقيا، فإن واشنطن بصفتها العمدة العالمية لديها ما يصل إلى ألف قاعدة عسكرية مُنتشرة في جميع أنحاء العالم، والعديد منها يُحيط بالصين.

لقد تمّ استخدام عقيدة النظام الدولي القائم على القوانين والأحكام لتبرير التدخلات العسكرية المستمرة للولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي والإنقلابات العسكرية التي ترعاها الولايات المتحدة والموجه ضد السُكان في خمس من القارات الست المأهولة مُنذُ تسعينيات القرن الماضي – كلُ ذلك بإسم نشر الديمقراطية وحقوق الإنسان. يُشير Ikenberry، أقوى مدافعاً فكري عنها، في أحدث أعماله، إلى أن “الأُممية الليبرالية”، “مُتورِطة في التدخلات العسكرية المستمرة تقريباً خلال حقبة الهيمنة الإمريكية العالمية”، بينما في ظل النيوليبرالية، أصبح النظير الإقتصادي لهذا الأمر مُجرد “منصة لقواعد ومؤسسات المُعاملات الرأسمالية”، لصالح القوى الموجودة دائماً .

جمهورية الصين الشعبية: قوة عُظمى ذات سيادة صاعِدة

أشار كارل ماركس وفريدريك إنجلز إلى ولادة “الإشتراكية الصينية” في تعليقهما في يناير 1850 على التحركات الأولى لثورة تايبينغ (1850-64) في الصين، وأشارا إلى أن الرجعيين الأوروبيين قد يصلون بجيوشهم يوماً ما إلى حدود الصين فقط “ليجدوا هذا النقش هُناك: “جمهورية الصين.. حُرية، عدالة، آخاء”.

كانت الرؤية الثاقبة غير العادية لماركس وإنجلز سابقة لأوانها لقرن من الزمن. بعد ستُ سنوات من كتابتهما لهذا، هاجم الجيشان البريطاني والفرنسي الصين مرة أُخرى في حرب الأفيون الثانية، مُستغلين الفوضى التي أحدثتها ثورة تايبينغ لتمديد فرض أوروبا للمُعاهدات غير المُتكافئة على الصين. لقد بنوا هذا على عملية بدأها البريطانيون في حرب الأفيون عام 1839، والتي اضطرت الصين في نهايتها إلى التنازل عن هونغ كونغ لبريطانيا بموجب مُعاهدة نانكينج في عام 1842. أدخلت حرب الأفيون قرن الذُل في الصين والتي استمر حتى انتصار الثورة الصينية عام 1949 وتأسيس جمهورية الصين الشعبية.يُنظر إلى فترة الإذلال على أنها انتهت أخيراً بِخطاب ماوتسي تونغ “لقد وقف الشعب الصيني”، في 21 أيلول/سبتمبر 1949، وهو خطابه الإفتتاحي في الجلسة العامة الأولى للمؤتمر الإستشاري السياسي للشعب الصيني. في تلك المناسبة، أعلن الزعيم ماو:

لقد قام الشعب الصيني، الذي يُشكّل ربع البشرية، بالوقوق الآن. لطالما كان الصينيون أمة عظيمة وشجاعة وكادِحة؛ لم يتخلفوا عن الركب إلا في العصر الحديث. وكان هذا كُلُهُ بسبب الإضطهاد والأستغلال من قِبل الإمبريالية الأجنبية والحكومات الرجعية المحلية. لأكثر من قرن من الزمان، لم يتوقف أجدادُنا عن خوض نِضالات لا هوادة فيها ضد القامعين المحليين والأجانب، بما في ذلك ثورة عام 1911 بقيادة الدكتور صن يات صن، رائدنا العظيم في الثورة الصينية … لقد ضممنا صفوفنا وهزمنا كلٌ من الأعداء المحليين والأجانب خلال حرب التحرير الشعبية وثورة الشعب العظيم، والآن نُعلِنُ تأسيس جمهورية الصين الشعبية … لن تكون بِلادنا بعد الآن أُمة مُعرّضة للإهانة والإذلال. لقد وقفنا … سوف نُقوي دفاعاتنا الوطنية ولن نسمح للإمبرياليين مرة أُخرى أبداً بأن يغزوا أرضنا .. تحية لِتأسيس جمهورية الصين الشعبية!

اليوم، لا تزال جمهورية الصين الشعبية تُركِزُ من خلال ما يُنظر إليه الآن على أنهُ صراع دام قرناً، لتُتوّج في عام 2049 بالتغلب على الآثار المُتبقية لما أسماه الزعيم ماو “تاريخ الإهانة والإذلال” الذي يعود إلى حروب الأفيون. ومن خلال القيام بذلك ، بدأت مساراً يُعرف بإسم “حلم الصين”، أعلنهُ الرئيس شي جين بينغ Xi في تشرين الثاني/نوفمبر 2012، ولكنهُ يعكس المسار الكامل للتطور الصيني بعد الثورة. “أعلن الرئيس شي جين بينغ أنهُ “فقط من خلال التمسك بالإشتراكية ذات الخصائص الصينية، يمكننا توحيد وقيادة الحزب بأكمله والأمة بأكملها والشعب من جميع الفئات العِرقية في تحقيق مجتمع مزدهر باعتدال بحلول الذكرى المئوية للحزب الشيوعي الصيني في عام 2021 وفي تحويل الصين إلى دولة اشتراكية مُزدهِرة وديمقراطية ومُتقدمة ثقافياً ومُتناغمة بحلول الذكرى المئوية لجمهورية الصين الشعبية في عام 2049.” وقد أُضيف إلى ذلك الهدف طويل المدى المُتمثل في إنشاء حضارة بيئية وصين جميلة، حيثُ يُنظِر إلى البيئة على أنها “الشكل الأكثر شمولاً للرفاهية العامة”. يُنظَر الآن إلى الهدف المئوي الأول، وهو عام 2021، على أنهُ قد تحقق. ولكن الهدف المئوي الثاني لايزال بحاجة إلى تحقيق. للذكرى المئوية لجمهورية الصين الشعبية، 2049، هي الإحتفال عبر “التحديث الإشتراكي” بالتجديد الوطني للصين، بعد أن انتصرت أخيراً على مدى قرن أو أكثر من القمع الأجنبي والمحلي الذي أنتج الأختلاف الكبير بين الصين والغرب.

مدفوعة بهذا المشروع التاريخي السيادي، ظلت الصين عدواً للإمبريالية ومُدافعاً قوياً لا يتزعزع  عن نظام Westphalia لسيادة الدولة، ليس فقط من حيث الصلح الأصلي لنظام Westphalia وميثاق الأمم المتحدة، ولكن أيضاً من حيثُ دعم الأهداف المُناهِضة للإمبريالية لمؤتمر باندونغ العالمي الثالث عام 1955، التي قامت جزئياً على مبدأ فلاديمير إليتتش لينين لتقرير مصير الأُمم، وأكدت الحقوق المُتساوية للبلدان النامية، وأهمية عالم مُتعدد المراكز. عَبَرَ الرئيس شي جين بينغ عن هذا الموقف المُناهض للإمبريالية في عام 2017:

من مبادئ المُساواة والسيادة التي أُرسيت في اتفاقية Westphalia للسلام في مقاطعة Westphalia الألمانية مُنذُ أكثر من 360 عاماً إلى الإنسانية الدولية التي تم التأكيد عليها في إتفاقية جنيف مُنذُ أكثر من 150 عاماً؛ من الأهداف الأربعة والمبادئ السبعة المنصوص عليها في ميثاق الأمم المتحدة مُنذُ أكثر من 70 عاماً، إلى المبادئ الخمسة للتعايش السلمي التي دافع عنها مؤتمر باندوينغ مُنذُ أكثر من 60 عاماً ، ظهرت العديد من المبادئ في تطور العلاقات الدولية وتم قبولها على نِطاق واسع. يجب أن تُرشِدُنا هذهِ المبادئ في بناء مجتمع مصير مُشترك للبشرية.

لقد كانت المُساواة السيادية هي المعيار الأكثر أهمية الذي يحكم العلاقات بين الدولة والدولة على مدى القرون الماضية، والمبدأ الأساسي الذي اتبعتهُ الأُمم المتحدة ووكالاتها ومؤسساتها. إن جوهر المُساواة في السيادة هو وجوب احترام سيادة وكرامة جميع الدول ، سواء كانت كبيرة أم صغيرة، قوية أم ضعيفة، غنية أم فقيرة؛ لم تتحمل شؤونها الداخلية أي تدخُل ، ولها الحق في اختيار نظامها الإجتماعي ومسار التنمية بشكل مُستقل.

يرتبط موقف الصين المُناهض للإمبريالية بمسار تنميتها بالكامل. إن تقدُمها الإستثنائي، بما في ذلك تضاعف اقتصادها أكثر من أربع أضعاف مُنذُ أواخر السبعينيات والقضاء الأخير على الفقر المُدقع، كان يعتمد ليس فقط على اندماجها في الإقتصاد العالمي، ولكن أيضاً، وليس أقل أهمية، على القيود التي قد استطاعت أن تفرضها على الطبيعة الرأسمالية لذلك التكامل. ومن الأمور الحاسمة في هذا الصدد وجود عدد من العناصر الأساسية ذات التوجه الإشتراكي التي تُميّز النظام الصيني: (1) المُلكية الإجتماعية للأرض، والتي لا تزال في الريف تُدار بشكل جماعي من قِبل المُجتمعات القروية؛ (2) سيطرة الدولة على الأموال والتمويل؛ (3) مُلكية الدولة لقطاعات الصناعة الرئيسية، بما في ذلك البنوك، مما يسمح بمعدلات عالية من الإستثمار؛ و(4) نظام تخطيط مُكمل لاقتصاد السوق يوجهه الحزب الشيوعي الصيني من خلال خطط خمسية. هناك تركيز مُستمر داخل الحزب الشيوعي الصيني على المفاهيم الماركسية والديالكتيكية، والتي يُنظر إليها على أنها مفاتيح لتحقيق مشروع الصين السيادي المُتمثل في إنشاء “ديمقراطية اشتراكية” حديثة ومُتطورة ذات خصائص صينية. والعُنصر الجوهري في النظرية الثورية الصينية، والمُمارسة ومفهوم الديمقراطية الإشتراكية هو الخط الجماهيري، أو مفهوم “من الجماهير إلى الجماهير.”

 تُميّز هذهِ السِمات مُجتَمِعة الصين كمجتمع ما بعد ثوري ليس رأسمالياً بالكامل ولا إشتراكياً بالكامل، لكنهُ يتبع مساراً تنموياً شاملاً يفتح إمكانية استمرار الحركة نحو الشكل الأخير.