ظلمة هي الحياة إذا لم يكن هنالك بصيص ضوء. ولكن من أين يأتي الضوء طالما هنالك أنظمة ظالمة، فمتلازمة الظلم والظلام تبقى طالما بقت تلك الأنظمة تجثم على صدور البشر ومصائرهم، وتحصي عليهم أنفاسهم وتجعل مصائرهم مجهولة بحكم البطش وسلطة القانون المسخر لمصلحة الأنظمة القمعية الظالمة، وهذا ما نجده في العديد من أنظمتنا العربية للأسف الشديد. كتاب قرأته عن سيرة ذاتية لحياة مأساوية نتجت عن اعتقال صاحب الرواية رفعة الجادرجي لدى السلطات العراقية إبان حكم صدام حسين.
هذا الكتاب يروي قصة رفعة مع الاعتقال ودور زوجته بلقيس في معرفة مصيره لدى السلطات وسعيها لاطلاق سراحه ليتقاسم الراويان تلك الحكاية من خلال وضع منولوج لكتاب ذي فصول يتقاسماها كلاهما دون أن يتدخل احدهما بحكاية الاخر، وبأسلوب بسيط وبصيغة مبتكرة للتوثيق، فالزوج يلقي الضوء على حاله في ظلمة جدران المعتقل والزوجة تحكي حالها ووضعها في خارج ظلمة جدار السجن محاولة منها معرفة مكان اعتقال زوجها وما آل اليه في ظل التعتيم على مصيره، وكذب السلطات عن تحديد مكان اعتقاله والحالة التي أصبح فيها أثناء الاعتقال ووضعه في السجن، وكيفيّة التعامل مع هذه الواقع الجديد.
يتكون الكتاب من أربعة فصول، ويعتبر وثيقة من الوثائق التي تسجل حالات العسف والمعاناة التي عاشها وما يزال يعيشها الشعب العراقي في ظل الأنظمة المتعاقبة عليه. المحنة التي عاشها رفعة وزوجته بلقيس دامت عشرين شهراً، وبعد مضي خمسة عشرعاماً من خروجه من السجن قررا كلاهما أن يدوّنا ما عاناه من محن خلال فترة السجن ليصدر الكتاب في العام 2003 عن دار الساقي. فالتجربة القاسية التي مر بها رفعة قد تكون أهون من تلك التجارب الأخرى التي مرت على الآلاف من أبناء وبنات الشعب العراقي في ظل النظام البائد، وما لاقوه من تعذيب وتنكيل وتهجيروقتل وإعدامات طالت العديد من القطاعات والأحزاب والقوميات ليعيش الشعب العراقي ظروفاً صعبة وعسيرة، من حروب وكوارث.
تبدأ مأساة رفعة في السادس عشر من يناير 1978 وهو يوم اعتقاله، لتخبر الزوجة من قبل والدة الزوج (الأمن أخذوا رفعة). “شعرتُ بجسامة اللحظة وعشتُ منذ تلك اللحظة في شك وقلق وخوف على مصيره”، كما تقول زوجته بلقيس. ومنذ هذه اللحظة تبدأ الزوجة بالإتصالات لمعرفة مصير زوجها المهندس المعماري المشهور، إبن كامل الجادرجي أحد مؤسسي الحزب الوطني العراقي وأحد السياسيين المحكوم عليه بثلاث سنوات في ظل حكم نوري السعيد في العام 1956، لتتوالى الفصول من التحقيق مع رفعة وهي ليست المرة الأولى التي يستدعى فيها، فقد استدعي مرات عديدة وكان الاستدعاء من قبل دائرتي الأمن والمخابرات كما يقول.
فبعد أن يسلم المعتقل عصابة يضعها على عينيه، تلك العصابة التي فقدت لونها من كثرة الاستعمال وحال لونها إلى السواد كما يذكر رفعة، يبدأ معه حفل التحقيق والاستجواب وحال الانتهاء من كل ذلك يعطى المعتقل رقماً وعليه أن ينسى إسمه وهويته، ماضيه ومستقبله وطمس وجوده وإلغاء كيانه كمواطن وإنسان وما عليه سوى تذكّر هذا الرقم ولاشئ سواه.
وهنا يذكر رفعة (أصبح الاستحمام وتناول وجبات الطعام والنوم والانتظار، بعد اليوم الأول في الزنزانة، أحداثا متتالية متعاقبة من روتين حياتنا اليومية، كئيبة ومتكررة، من دون أي تغيير في نمطها سوى خروج معتقلين وورود آخرين محلهم). الاتهام الموجه لرفعة لا يعدو أن يكون علاقته بشركة (ويمبي) البريطانية لتنفيذ مشروع (عكاشات)، وهو مشروع ضخم ومعقد وكونه مهندس استشاري، وكون الحكومة دخلت في خلاف مع بريطانيا فأصبح هو كبش الفداء، واتهم بالتخريب الاقتصادي، ليحكم عليه بالسجن المؤبد من محكمة الثورة في 23 مايو 1979 في محاكمة صورية لم يحضرها أحد، ولم يعلم بها حتى المتهم إلا يوم النطق بالحكم، بعد أن فشلت جميع الوساطات وعلى أعلى المستويات في الداخل والخارج كون المعتقل شخصيّة معروفة ومشهورة في ذات الوقت وله علاقات متشعبة من خلال عمله والندوات العلمية في مجال تخصصه.
لاتعدو سعة الزنزانة رقم (26) التي يقبع فيها رفعة أكثر من متر وسبعين سنتيمتر عرضاً، ومترين طولاً فيذكر (نشعر بثقل الهواء بسبب حشر المعتقلين في ذلك الحيز الضيق. لا مجال لحركة الهواء النقي فيها، فيدور الهواء كما لو أننا داخل فنجان.).
إذن هذه حال السجون في مختلف البلدان العربية، التشابه في كل شيء وكل يستفيد من تجارب الآخر في التعذيب والتنكيل بالمعتقلين وإذلالهم بكل الطرق وبمختلف الوسائل. بعد الحكم يساق رفعة لسجن “أبوغريب” ليلتقي بالعديد من المعتقلين العرب والاكراد المحكوم عليهم جماعيا كونهم ينتمون لتنظيمات تسعى لتحريرهم من السلطة المركزية والبعض منهم محكوم عليه بالإعدام.
وقبيل إطلاق سراح رفعة نمى إلى علم بلقيس من خلال إحدى المهندسات (وجدان) من أن السلطات العراقية بصدد تنفيذ مشاريع ضخمة بمناسبة إنعقاد مؤتمر دول عدم الإنحياز في بغداد عام 1982 واضطرارالسلطات للبحث عن مكاتب كبيرة لتنفيذ هذه المشاريع، فما كان من المسؤولين إلا الطلب من رئيس الجمهورية إطلاق سراح رفعة بعد أن طلب منهم البحث عن خيرة المهندسين، فكان جواب المسؤول (سيدي واحد جوه والأخر بره)، وكما تروي بلقيس فإن المقصودين هما رفعت الجادرجي في السجن والمعماري الآخر الدكتور محمد مكيّه في الخارج، فقد ترك العراق منذ بداية السبعينات. عندها قال صدام حسين (الجوه نطلعوا، والبره نجيبو).
هكذا تدور الدوائر في تعامل السلطات مع العلماء والمتميزين، تزج بهم في السجون وعندما تحتاجهم يطلق سراحهم، بعد خروج رفعة من السجن هُيئت له دائرة في أمانة العاصمة عُين هو رئيساً لها، وباتت كلفة المشروع لا حدود لها بعد أن أصبح الرئيس هو المرجع لتفيذ تلك المشاريع، وأصبح يوم 20 أغسطس، كما تقول بلقيس، عيد ميلاد ثانٍ نحتفل به، فقد ولد رفعة ثانية عندما خرج من أحشاء السجن المظلم، وأصبح الاحتفال بعيد ميلاده الثاني عادة مستمرة حتى بعد أن تركنا العراق.
قصة رفعة لا تعدو أن تكون واحدة من آلاف القصص المشابهة التي تحدث في مختلف السجون العراقية منذ أن تحكمت الدكتاتورية على رقاب الشعب العراقي وأذاقته صنوف الإذلال، وجعلت من هذا الشعب العظيم ذي العزة والكرامة يعيش الخوف والرعب ليخاف الأخ من أخيه والعائلة من ابنها، هذا النظام الذي عاث فساداً في عقول الشباب العراقي وجعل منهم مطيّة لأساليب التبليغ عن أهاليهم، حيث أصبح الكل في هلع دائم على مصيره، فالمستقبل مظلم والأمل في حياة حرة كريمة معدوم، ليصبح العراق في تلك الحقبة جمهورية الخوف حقاً وحقيقة.
إلا إن الأمل يبقى معقوداً على الجيل المنتفض في الساحات ليقدموا بديلاً عن تلك الأنظمة القمعيّة، وها نحن نرى كيف أن الفساد والسرقات مستشرية بعد سقوط نظام صدام ليأتي البديل الأسوأ، نظام المحاصصة الطائفية.
جدار بين ظلمتين معاناة عسيرة ومؤلمة عاشها الراويان، وتغلباً على أحزانهما بقوّة الإرادة والحب والإخلاص لكليهما، وفعلت الزوجة وأقربائها المستحيل لفك الطوق عن رقبة رفعة الجادرجي ذاك الانسان البارع والمتميز في عمله الهندسي، ليخرج من السجن وبعد إنجاز المشروع يفرّ خارج وطنه، كحال الآلاف، إلى بلدان أخرى تستفيد من هذه الكفاءات ليعيشوا منفيين عن أوطانهم.