اعتذار متأخر إلى سعيد العويناتي

0
87

قال لي وانثنى

عبرتُ جميع المذابح أمشي

وراء الضحايا أنا

تغنى البلابل فوق دمائي

فتغفو دماء وتصحو غِنا

وتركض نحوي السيوف،

كأن الحتوف

تهيئ نعشاً جديداً لنا

إنهم حولنا

يرصدون الأماني

ويبنون وهماً هناك وقبراً

عميقاً هنا،

قاسم حداد

شكرا لهذه الدعوة

لنتحلق حول شمعة على قبر مجهول

برغم ما في ذلك من شعور بانتهازية شعرية ما

لا تفارق إحساس أي شاعر

أعني انتهاز فرصة موت إنسان لنكتب قصيدة

كم شاعر يجب أن يموت لنكتب قصيدة رائعة

وأية نفعية مبتذلة تلك

أن يكون سقوط شهيد على مذبح

وسيلة لأن أقوم على مسرح

أرثيه أو أمجده

أن أحرص على أن أكون مجوِّدا في المعنى والمبنى

ليكتمل الرثاء في أبهى صوره تراجيدية

ولماذا لا يفارقني ذلك الشعور بأني أبيع جثة صديق

لأكسب تصفيقاً

ولماذا لا تفارقني عيناه الحانتيتين

وهو يقول لسعدي يوسف كما نقل هذا الأخير

هي فقط زيارة قصيرة للبحرين أعود بعدها إلى بغداد لإكمال الدراسة

لكنه مكث في البحرين طويلا أكثر مما ينبغي، يقول سعدي يوسف

حسناً على أي حال

كنت أريد أن أكتب قصيدة متخيّلة

لأن موتك كان من الحقيقة بمكان إلى درجة أنا لا نعرف عنه شيئا

أليست الحقيقة الكاملة هي في النهاية غياب كامل

أن أقول إنك كنت تحتبيء في بيت صديق شاعر مثلاً

وحين جاء إليك فريق الموت

طمأنتَ من معك بأنك عائد سريعاً

وأنها فقط زيارة قصيرة إلى الجهة المسؤولة وربما يكون الأمر مجرد اشتباه

كنت أريد أن أقول إنكَ ارتديت ثيابك على عجل وركبتَ السيارة معهم

لتفاجأ من خلال اللهجة والسلوك أن حفل القسوة قد بدأ

أن يناقشك الآمر في الشعر قائلاً

حسناً ! والآن قُل لي ما هذا الذي تسمونه فناً

هل هو حقيقة

دعني أقرأ لك هذا المقطع من قصيدتك “امرأة تجلس وتحمل في يديها ثديها المقطوع”

هل تريد القول إننا نفعل هذه الفظائع

وكنت ترد كلا أيها الآمر

إن الشعر، كيف أقول، إنه تركيب من الخيال

يضحك

أنت تعترف إذن أنك تنسبُ لنا ما ما لم نفعله فقط لتثير الأحقاد

ترد

لا أيها السيد فالشعر يعتمد على التخييل لأن تلك طبيعته

يركّبُ من صورة من البؤس خيالاً أكثر تعبيراً وبشاعة

يجيب، ساخراً، هكذا إذن

وحين أيقنتَ بأنه ربما الموت أو ما هو أقسى

قلت لهم حسنا عِدوني ألا يكون ذلك عند سطوع القمر

كنت أريد أن أتخيل أنك قلت لهم لا تقتلوني عند نخلة ولا تحت ضوء قمر

لقد كتبتُ كثيرا عنهما ولا أريدهما أن يشهدا موتي كأنهما صديقين نذلين

كنتُ أريد أن أقول أن الرماة قالوا لك حسنا اركض لتأتيك الضربة في الظهر تماما دون أن تراها رحمة بك منك

هل كانوا يتحاشون عينيك

كنتُ أريد أن اقول إن الطلقة الأولى والثانية لم تُمتكَ

فقلتَ لفريق الإعدام رجاء أكملوا المهمة

فأنا ما زلتُ حياً

لكن أوه يا للأسف هذا كله خطأ من الأساس

فأنت لم تحاورهم في الشعر

ولم تمتْ أصلا بطلقة

كان ذلك في رواية مقتل لوركا في عام 1936

تماما قبل استشهادك بـ 40 عاما في 1976

كنتُ أريد أن أركّب من الخيال ما يكمل فجوات الحقيقة

لقد كنتَ شاعراً وربما ناقداً يا سعيد

وتعرفُ أننا نتوسل بالخيال لنرص ما ضاع من قطع الحقيقة

مثلاً أن أقول إنك ليلة رحيلك تركوا لك باب الزنزانة مفتوحا ليغروك بالهرب

حرضوك ضمناً لتنفد بجلدك لأن قتل شاعر لا ذنب له غير قصيدة أمرٌ شائن بالطبع

وأنهم حين بدأوا برنامج ترسيمك ميتاً سألوك كيف تريد أن تموت

فاقترحت عليهم ما يجعل الموت أسرع وأرحم

وطاب لهم ذلك

كأنّ موتك بطريقة تختارها يجعلهم أقلّ مسؤولية عن الجريمة

كأنهم أشركوك في خطيئة لا يستطيعون تبريرها أمام الرب أو أمام ضمائرهم

كنتُ أريد أن أقول إنهم تركوك ليلتها تكمل قصيدتك متأملا في نافذة تطل منها السماء وحياتك القصيرة

لكن ويا للأسف لم تكن تلك إلا قصة سلفك طرفة بن العبد على هذه الأرض وهو يرتب نص ساعته الأخيرة قبل 1500 سنة

كنتُ أريد ألا أراك

بل أتخيلك

فمن يقدر على رؤية شاعر يموت

خاصة أن يكون الموت تجرعا دفعة بعد أخرى

الموتُ المتمهل ربما بيد قاتل يستمتع بطول الوقت

أن يكون عذاباً

لم تصلنا وصيتك 

كم تُرك لك من الوقت لتقول وداعاً

كم ترك من متاعك

لنجد فيه أثرا منك

تدوينة أخيرة في قصاصة

قلماً

مفتاحاً

محفظةً أو قميصاً

تلك الأشياء التي تقود إلى خيط عن منحة اللحظات الأخيرة الثمينة

لا أثر ولا وصية

هل تسمح لنا أن نوصيكَ نحنُ إذن؟

هل سمعتَ بحيٍ يوصي ميتاً

أجل إذا كان ذلك سعيد العويناتي

نوصيكَ أن تحررنا من أحقادنا ضد التاريخ

أن تكون مسيح خلاصنا من الغل وشهوة الثأر

أن تلهمنا البحث عن حقيقة غيابك

فقط بفعل ولع المعرفة ومتعة الكشف

أن تمنحنا قبر عظامك المجهول

بيتاً في قفصنا الصدري

نلوذ به كلما اكتوينا بشتاء الفجيعة

لنراك ممسكاً بذراع لوركا

وكلاكما فاتنين في ميعة الشباب وموسيقى الشعر

مردداً:  

“وعرفتُ أنني قتلت
وبحثوا عن جثتي في المقاهي والمدافن والكنائس
فتحوا البراميل والخزائن
سرقوا ثلاث جثثٍ
ونزعوا أسنانها الذهبية

ولكنهم لم يجدوني قط” *

————————

* من شعر الشاعر الأسباني لوركا