في فجر مثل هذا اليوم الأول من يناير عام 1959 اُعتقل المفكر المصري الراحل الكبير محمود أمين العالم ضمن أكبر حملة أعتقالات تلحق باليسار في تاريخ مصر الحديث، حيث طالت المئات من رموز وعناصر اليسار والشيوعيين المصريين، وتعرض جميعهم لصنوف من أشكال التعذيب الوحشي، وسقط تحت هذا التعذيب في معتقل “أبو زعبل”سيء الصيت شهداء عديدون، ومن أبرزهم القائد الشيوعي الفذ شهدي عطية.
ولم تكن جريمتهم الوحيدة سوى أنهم أبدوا رأياً مخالفاً للقيادة الناصرية في الأسلوب الذي جرت به الوحدة المصرية السورية الإندماجية التي تمّت في فبراير 1958وفشلت في 1961. وكان العالم ضمن من تعرضوا للتعذيب حيث كُسرت على إثره إحدى رجليه، ولما كان مطلوباً منه وجميع رفاقه القيام بأعمال شاقة في الجبل الذي يسيرون إليه صباحاً لمسافة طويلة حفاة الأقدام، فقد كان العالم يُحمل من قَبل رفيقين له، وعند بوابة الجبل يتم سحله حتى مكان العمل المطلوب حيث عرف أول مرة معنى “السحل”على حد تعبيره، وأستمرت الآلام المبرحة تلازمه لفترة طويلة .
وقبل ذلك في عام 1954 تعرض العالم ومجموعة كبيرة من أساتذة الجامعات لعقوبة الفصل من الجامعة بسبب مواقفهم المطالبة بالديمقراطية، وكان حينها عُيّن مدرساً مساعداً لتدريس المنطق في كلية الآداب بُعيد نيله شهادة الماجستير عن ” قانون المصادفة الفيزيائية ودلالاتها الفلسفية ” التي أعتبر المشرفان على رسالته بأنه يستحق عليها درجة الدكتوراه لولا تقيّدهم بالنظام التدرجي في نيل الشهادات العليا، وكان عندئذ يستعد للتحضير لرسالة الدكتوراه عن ” قانون الضرورة في العلوم الإنسانية” .
ومع أن الوحدة فشلت عام 1961وأعترف عبد الناصر بفشلها لعوامل سبق أن ساقها الشيوعيون في أبداء مواقفهم منها، ومع أن الميثاق الوطني الذي صدر في العالم التالي 1962 تضمّن معظم مبادئه التوجهات الإشتراكية الماركسية، إلا أنه لم يجرِ الإفراج عنهم إلا عام 1964 إثر ضغوط من الاتحاد السوفييتي عشيّة زيارة رئيسه خروشوف لمصر، وفور الإفراج عنهم تمّ الضغط بقوة على قياداتهم لحل حزبهم الشيوعي والتعاون مع حزب السلطة ” الأتحاد الاشتراكي” ولم يكن لهم خيار سوى الخضوع لهذا الضغط، حيث أعلنت اللجنة المركزية حلّ الحزب في أبريل 1965.
أنخرط محمود أمين العالم مع مجموعة من رفاقه اليساريين في النضال السياسي تحت مظلة الاتحاد الاشتراكي وعيّنه الرئيس جمال عبد الناصر في “التنظيم الطليعي” السري الذي أنشأه داخل الاتحاد الاشتراكي نفسه، ثم شغل مناصب عديدة، منها: رئاسة تحرير ومجلس إدارة صحيفة “أخبار اليوم” التي فُصل منها لرفضه مصادرة مقال له فيها ، ورئيس مجلس إدارة الهيئة العامة للكتاب، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة المسرح والموسيقى والفنون الشعبية، كما اُنتخب عضواً قيادياً في نقابة الصحفيين.
أما في عهد الرئيس أنور السادات فقد تعرض للاعتقال ضمن الحملة التي طالت القيادات الناصرية في مايو 1971، وبعد الإفراج عنه سافر إلى باريس وعمل استاذاً في جامعة السوربون، وفي باريس ساهم في التعاون مع رفيق دربه ميشيل كامل رئيس تحرير “اليسار العربي” في إصدارها، وبعد عودته لمصر في عهد الرئيس حسني مبارك أصدر “مجلة قضايا فكرية” الدورية التي ظلت تصدر بانتظام حتى رحيله في العاشر من مثل هذا الشهر يناير 2009 مخلفاً إرثاً فكرياً ونضالياً وسياسيا مهماً ً. وبالرغم من أن محمود أمين العالم كان واحداً من قلة من المفكرين العرب الذين قدّموا اسهامات تنظيرية متميزة في أثراء الفكر العربي بلا منازع ما أجمع عليه كل المفكرين وكبار المثقفين العرب على أختلاف مشاربهم الفكرية؛ إلا أنه كان إلى ذلك ناقداً أدبياً كبيراً لا يشق له غبار، وإن لم يتفرغ بالكامل للعمل النقدي، إذا كان شغله الشاغل قضايا النضال السياسي اليومي.