في أحد معارض الكتب بالقاهرة، استرعى انتباهي ذات مرة عنوان كتاب صغير الحجم، في حجم كف اليد تقريباً، تناولته فإذ به هو مجموعة قصص قصيرة ساخرة ومعبرة وجميلة للكاتب التركي عزيز نسين، وبسبب سعره الرخيص بالعملة المصرية اشتريت عدة نسخ منه لاهدائها لاصدقائي وصديقاتي على سبيل الدعابة والطرفة.
لكن النسخ ظلّت قابعة في مكتبتي إلى يومنا هذا ولم أجرؤ على إهدائها إلى أحد. اتدرون لماذا ؟ لأن الكتاب يحمل عنوان “خصيصا للحمير”، ولقد خشيت أن يؤّل هذا الإهداء إلى غير معناه الذي قصدته وتنقلب الحركة البريئة إلى دراما وعتب وزعل معلن او غير معلن، وأخسر صداقات معمّرة أحبّها واعتزّ بها.
ومعروف بداهة، وفي الثقافة العربية على وجه الخصوص، أنّ الإشارة إلى هذا الحيوان ترمي دوماً إلى الإهانة والتحقير والاستصغار والوسم بالصفات الرديئة. ولقد جاء الحمار في أعمال وعناوين أدبيّة عربيّة وعالمية كثيرة ربما سعت إلى إعادة بعض الاعتبار لهذا الحيوان والانتقام من ظالميه، وفي صغرنا قرأنا مسرحية “الحمير” للكاتب توفيق الحكيم، و”حماري قال لي”، وهي كتابات ساخرة وذات أبعاد سياسية واجتماعية وناقدة للمجتمع وللناس وللدولة وفكرها وايديلوجيتها وممارساتها.
مفردة الحمار لا ترد الا للتندّر على الأغبياء والبلهاء والحمقى والصابرين والظالمبن احياناً، وفي إحدى الدورات التدريبية سألت إحدى الحاضرات مدربها كيف أتخلص من مفردة تتردد دوما على لساني بشكل سريع وتلقائي ولا قدرة لي في السيطرة عليها؟، سألها: ما هي الكلمة؟، أجابت: “حمار” أعزّك الله، ردّ المدرب ساخراً: ‘نه امر صعب يا عزيزتي ذلك أنك تعيشين مع هؤلاء الحمير.
لم ارد من هذه المقالة الإكتفاء بحكايات الناس مع الحمير، هذا الحيوان الصابر الممتثل والمطيع والذي يوشك على الإنقراض بسبب عدم الحاجة إليه في زمننا هذا، إنما أردت التعريج على أولئك الذين يستحمرون الناس ويسخرونهم ويستعملونهم جسوراً وخدمةً لمصالحهم، وهم كثيرون حولنا وفي كل مكان على هذه الارض.
“الاستحمار” تعبير قال به علي شريعتي في كتابه الجميل “النباهة والاستحمار” الصادر عن دار الأمير، ترجمة هادي السيد ياسين، وتعبير الاستحمار قصد منه حرف الناس عن مطالبها الأساسية وأهدافها الجوهريّة وجرها بعيدا عن حقوقها ومطالبها وتزييف وعيها والاستخفاف بعقلها وتوهينها وإضعافها كي يسهل ركوبها وقيادها، وهي سياسة لا تنجح إلا في اجواء الاستبداد وبيئة الفساد والطغيان.
دأب أهالي الدائرة الإنتخابية على توقير نائب منطقتهم الذي ادعى تمثيلهم خير تمثيل وتوصيل شكاواهم وهمومهم ومطالبهم لذوي الشأن، وقد ظلّ يتلقى الرسائل والهدايا وأطباق رمضان والأعياد. تصدّر احتفالاتهم وأفراحهم ومناسباتهم العديدة التي بدا فيها كعريس وسط الجموع المحتفيّة به، وظلّ مكتبه ساحة للامل والوعود والانتظار طوال فترة نيابته، وكان أهالي دائرته يوشكون على إعادة انتخابه قبل أن تتسرب وبالمصادفة المحضة بعض رسائلهم – التي لم تصل الى مقاصدها – إلى أيدي الجيران، وبعضها لم يمس ولم يفتح، إذ وُجدت ملقاة في مكب النفايات أمام بيته!
النائب الذي استحمر ناخبيه عاش طوال فترة ولايته متربعاً على عرش سلطة غير موجودة ولم يمتلكها يوماً، موهماً جماعته ومريديه بعظمة قدرته وسطوته وطول لسانه وشجاعته، والواقع أن الناخبين لم يكونوا حميراً عندما انتخبوه ووثقوا به وصدّقوه وائتمنوه على مصالحهم، إنما جرى استغفالهم واستحمارهم وايهامهم بنفوذ وسطوة نائبهم الزائفة وغير الحقيقية التي لم يروا منها إلا السراب، وجاء في تفاصيل الواقعة أنّ النائب سرّح خادمته الآسيوية متهماً إياها بتخريب وتدمير كل ما بناه على مدى سنوات، وبالتصرف في أكياس قمامة كانت مخبأة في ركن قصي من مكتبه تمهيداً لإلقاءها بعيدا عن محيط بيته ودائرته .
لكن المرء قد يستحمر البشر بعض الوقت وليس كل الوقت، الزمن بتحولاته وتقلباته كفيل بكشف زيف مستعبدي ومستحمري البشر وإن بعد حين.