لا أعرف إن كان دور المثقف أن يزعج السلطات كما يقال“
لكنّي أعرف أن دور الفيلسوف أن يزعج الجميع بلا استثناء“
- سعيد ناشيد
في هولندا 1632م وُلد باروخ سبينوزا وسط عائلة يهودية، إلا أنه حين شَبَّ ما عاد يرى نفسه يهوديًا. وكأي فيلسوف حاذق أخذ يتساءل عن علاقة الله بالإنسان، بمخلوقاته وآلامهم، والعالم. لنرى في النهاية أن إله سبينوزا، هذا الفرد الواحد، أوسع من إله الجماعة التي انتمى إليها.
في رواية (عالم صوفي) عن تاريخ الفلسفة بَوَّبَ جوستاين غاردر فصل سبينوزا بجملة: “ليس الله محرك دمى”. هكذا قَدَّمَ جوستاين الصورة السبينوزاوية للإله وعلاقته بالعالم، وهي ربما تشبه ما أراد أن يقوله فيلسوف الشعراء في شِعره: “إذا كان لا يحظى برزقكَ عاقلٌ*وترزُقُ مجنونا وترزقُ أحمقا – فلا ذَنبَ يا رب السماءِ على امرِئٍ*رأى مِنك ما لا يشتهي فتزندقا”.
هذه من كفريات المعري كما يقولون، إلا أنها من إيمانياته أيضا، فالإنسان لا يمكن أن يعيش فارغا من صورة يؤمن بها. المعري مؤمن من الناحية الفلسفية، ومن يقرأ فلسفته يدرك أنه رجل روحاني وليس ملحدًا كما هو في مقاييس علماء كلام الشريعة. كان المعري يرى أرزاق الناس توزع بغير عدل، فالمجانين والطغاة يتلذذون بأموال الناس، بينما العقلاء والحكماء فقراء. إنه هنا ينزه إلهه عن هذه القسمة، ونحن اليوم نعرف أن فساد أو صلاح أي أُمَّة اقتصاديًا هو أمر بشري، ففي بلد تنتشر فيه المحسوبيات أو التمييز العرقي والطائفي والإقصاء على الهوية.
إن إله سبينوزا كإله المعري: “ليس محرك دمى” كما يصفه غاردر. وتأتي هذه الصورة متكاملة مع استنتاج الفيلسوف غَلَبةَ الشر على الخير في عالم المادة، والمُراد منه ربما تنزيه الإله عن شرور الإنسان، وتندرج هذه الشرور في قضايا الاجتماع والاقتصاد والسياسة. ولكن ماذا عن القوى القاهرة – الطبيعية – كالأمراض والزلازل، الفيضانات والبراكين؟!
يمكن أن نشبه إله سبينوزا بصانع الساعة فهو خلق ساعة الوجود هذه، ووضع فيها قوانينها الفيزيائية بحيث لا تتأخر ولا تتقدم، وإن ما يصيبها من عطبِ بعد خَلقها أو فساد لهو جزء من صميم قوانينها. كل شيء في العالم يحصل بالضرورة، وتبدو هذه الرؤية أكثر منطقية مقارنة بالتفسيرات الغائية التي تجعل لتلك الكوارث غايات لقِوى ماورائية، فنحن مثلًا نقع في ازدواجية أمام تفسير الحالة الطبيعية لحدوث المرض بإحالته أحيانا للعقاب الإلهي و أحيانًا نسميه ابتلاء محب لحبيب، فالله يمكن أن ينزل ذات الحدث القاهِر كابتلاء من محب أو كعِقاب غاضب، ويعتمد هذا الاختلاف على ما نقيسه من مسافة بين من حدث فيه المكروه والإله الذي نؤمن… لكن كيف نفسر ذلك الحدث بوصفه عقاباً أو بلاء، وهو قد يعترض البهائم، أو يحرق الغابات؛ تلك الكائنات التي لا علاقة لها بما نفكر فيه ونؤمن؟!
كان سبينوزا يرى أن كل ما في الطبيعة هو امتداد إلهي، كان يضع الله في موازاة الطبيعة، بل كان يرى الله في كل موجود، وكل ما هو موجود في الله، معنى ذلك أن الوجود عند سبينوزا واحد. وقد آمن أصاحب وحدة الوجود بذات الفكرة في الإسلام واستشهدوا بآيات من قبيل: “فلما سويته ونفخت فيه من روحي” أو “أينما تولوا فثم وجه الله” والقرآن قد يحمل دلالات أو شواهد لهكذا منطق… إلا أن لفلسفة سبينوزا على أية حال علاقة خاصة ورؤية تتمايز عما هو في فلسفة الديانات اليهمسلامية الثلاث.
فن العيش عند سبينوزا (الغني من استغنى)
إن مبدأ كل شيء واقع بالضرورة جعل سبينوزا يتعامل مع نوائب الحياة بسلام روحي، وهو أمر قريب من القول بالقضاء والقدر رغم أنه مختلف، فالقول بأن كل شيء واقع بالضرورة في فلسفة سبينوزا يعني بأن كل شيء هو امتداد للطبيعة/لله وأن الإنسان حين يفكر في الشيء فهذا لا يعني أنه يفكر بحرية، بل هو يفكر وفق امتداده الطبيعي أو الإلهي، تماما مثلما ان الامتداد الطبيعي أو الإلهي لشجرة التفاح لا يمكن أن يثمر عنبًا.
إن التفكير في الله/الطبيعة كالشيء الواحد الذي يتصرف بحرية، وإننا نفكر من خلاله، جعل من سبينوزا يحمل نكهة صوفية في فلسفته، فقد كان من أكثر الأشخاص الذين دعوا للتسامح الديني، وهذا بالضرورة جعله يصطدم بالمفاهيم اليهودية، ما جعل المجلس اليهودي يصدر قرارًا ذا لهجة غاضبة يتضمن العبارات التالية: “بموافقة الطائفة المقدسة كلها، وفي وجود الكتب المقدسة ذات الستمائة والثلاثة عشر ناموسًا المكتوبة بها، نصب عليه اللعنة وجميع اللعنات المدونة في سفر الشريعة، وليكن مغضوبًا وملعونًا نهارًا وليلًا، ونرجوا الله ألا يشمله بعفوه، وأن ينزل عليه غضبه وسخطه…”.
رغم كل العواقب والهجوم لم يتخلَ سبينوزا عن فلسفته ودفاعه عن حرية التعبير، حتى مع أقسى عقاب عوقبت به روحه حين أنكرته عائلته باعتباره زنديقًا، وحتى بعد وفاة والده حين استغلت أخته قرار المحاكم اليهودية التي تنص بحرمانه من الإرث. فهو لم يأبه بأن يحصل على ذلك الميراث أبدًا، وجعلته مقاومته ضد تلك الحرب من طائفته وعائلته أن يعيش منعزلاً، مكرسا وقته للفلسفة، مكتفيًا بما يعيش عليه من حرفته البسيطة في صناعة النظارات وصقل العدسات وبيعها، وأخيرًا حين أنصفته المحكمة وقررت أن ينال حقه من الإرث، تخلى عنه، واكتفى بالعدالة والإنصاف الرمزيين.
إن هذا الموقف – استمداد القوة من الاستغناء وعزة النفس بالعيش من عمل اليد – هو موقف مشترك عند الحكماء، ففي الرسالة القشيرية في علم التصوف يحكي عبدالكريم بن هوزان أن خادم السلطان مر ّ على حكيم فوجده يأكل من حشائش الأرض، فقال الخادم: لو أتيت لتخدم السلطان لكفاك هذا. فقال الحكيم: وأنت، لو اكتفيت بهذا لما احتجت لخدمة السلطان. ويُحكى أن الاسكندر الأكبر مر على ديوجين الكلبي في قصة مشهورة، فقال الأسكندر: ما تشاء يا ديوجين. فأشاح بيده قائلا: أن تبتعد قليلًا لأرى ضوء الشمس. وفي حديث نبوي يحث على عمل اليد: “ما أكل أحد طعامًا قط خير من أن يأكل من عمل يده”.
إنه ليس مصادفة أن يقول دولوز بأن سبينوزا هو الفيلسوف الأكثر نبلًا، وبحسب فريدريك لونوار إنه الفيلسوف الأكثر حكمة، فضلًا عن أن نيتشه اعتبره سلَفه الحقيقي.