“التحوّل” .. من رسائل انتحار زفايغ

0
34

تكسر الحروب أحلام الإنسان وتنجب أياماً سُود لا ظلّ لها غير المعاناة والبؤس، بيْد أن مايخفف من آلام الحرب هو الحب الذي قد يتوهج على ركامها وكأنه نبوءة بأن الحياة مستمرة مهما بلغت قسوتها وقبضت أصابع الموت على الأحياء.  ولكن ماذا لو كان الوطن قاسياً في حنوه، حاداً في تجلياته وحماسياً كنشيد سياسي؟  وما الذنب الذي يرتكبه الفرد حين يريد مزاوجة الحبّ بالحرية؟ 

مؤلمٌ أن يتم اختزال المرء إلى شيء عديم الجدوى، تتبع ذاكرته الأخيرة آثار الحرب لتسحق قيمة الإنسان البخسة ورخص دمه المسفوح أمام كلاشينكوف ضئيل الحجم وقنبلة نيوترن صغيرة! 

يصف الروائي النمساوي ستيفان زفايغ في روايته “التحوّل”، تفاصيل دقيقة لواقع عصره القاسي إذ كشف مدى طغيان أجواء الحرب على مصير الفرد العادي. يقول فردينان – أحد شخصوص الرواية – معبراً عن وعيه الحاد بخسارات الحرب التي يستحيل تعويضها؛ إن الإنسان ليس سحالي تنبتُ أذيالها بسرعة بعد أن يتم اقتلاعها حين تبتر أجمل سنوات من حياة الرجل فإنه يظل معاقاً إلى الأبد.

يأخذ منحنى السرد اتجاهاً متصاعداً باستثناء ما تكسرهُ الارتدادات التي تكمل حلقات في هوية كريستين الاجتماعية من ناحية وتسد ثغرات في تركيبة شخصية فردينان من ناحية أخرى؛ فتنطلق الرواية مقدمة صورة بانورامية عن مكاتب البريد في فيينا.

ويحاول الراوي أن يحدّ من المسافة بين البيئة والمتلقي باستخدامه الضمير المخاطب ثم يزاوج السردُ بالوصف في الإبانة عن خصائص المكان ويُطعم في هذا السياق بمعلومات تاريخية عن الحاضنة المكانية مع الاهتمام بوصف التصميم والأعراف الادارية. وهنا يضعك زفايغ أمام مشهد التشدد البيروقراطي في إشارة إلى أن الزمن يتوقف في هذا المكتب ويكون القانون الأزلي للانحطاط والنهوض مُعلقاً داخل مبنى دائرة البريد. وربما الغاية من هذه المساورة هو الإيحاء بمشقة عملية التحوّل.

يذهب السرد بعد ذلك نحو الشخصية التي تشكلُ قصتها قوام الرواية الأساسي، الشابة العشرينية الشقراء “كريستين” التي تعيش مع والدتها حياة محدودة الخيارات كأنها قد تشكلت في بيئة باردة رغماً عن الحيوية التي تومض على روحها أحياناً.

تتغيّر حياة أسرة كريستين مع اندلاع الحرب العالمية الأولى، إذ يُقتلُ أخوها الذي يجندُ في الجيش. وبعد أقل من سنتين يلحقُ الوالد بابنه وبذلك تشتد الأزمة وتضطر الوالدة لإعالة الأسرة ويكون جزءٌ من المسؤولية من نصيب كريستين أيضاً إذ تباشر العمل في مكان ناءٍ.

تبدأ نقطة النحوّل في شخصية موظفة البريد مع تلقي برقية يبدي صاحبها ترحيبه باستقبال كريستين ما أن تصل إلى مكان إقامته، والموقع على البرقية هو زوج خالتها التي هاجرت إلى أمريكا بعد ما ضاقت ذرعاً في بلدها لتتزوج في بأنطوني فون بولن تاجر القطن، وهنا تأخذُ قصة حياة كلارا التي تعرفُ بكلير فون بولن موقعها المؤثر ضمن السرد. كانت كلير تعمل عارضة أزياء في فيينا قبل رحيلها الاضطراري إلى نيويورك، إذ وقع رجل الأعمال الثري في غرامها ما ألهب غيرة زوجته وأطلقت النارعلى العاشقين وبعدما تكتبُ حياة جديدة لها؛ تغادر فيينا قبل أن تتفاقم الفضيحة وتنقطعُ عن أهلها إلى أن تزور سويسرا مع زوجها الهولندي حيثُ تتواصل مع أختها ماري.

تهبّ عاصفة في وتيرة الأيام الرتيبة وتلوح فرصة الخروج من التقييد الوظيفي – ولو مؤقتاً – إذاً تلبي كريستين دعوة خالتها وتحلُ ضيفاً في انجادين بدلاً من أمها العجوز.  تتخذ شكلاً جديداً من الأزياء والاكسسوارات وتنفتحُ على أجواء النزل ويعودُ الدفءُ إلى مشاعرها الميتة وتنسب نفسها إلى عائلة فولن بحيثُ ينسى اسمها الأصلي وتهمل مراسلة أمها المريضة ولا تقرأ ما يُكتب لها عن حالتها الصحية. إذ تنغمسُ تماماً بهذا الوسط الأرستقراطي وتنشأُ بينها وبين المهندس الألماني علاقة غرامية ويتوددُ إليها الجنرال الإنكليزي. تلاحظ فتاة مانهايم بأنها لم تعد مثار اهتمام المهندس الألماني بعد أن حلت الضيفة الجديدة مكانها ولا يمرُ كثير من الوقت حتى تكتشفُ الفتاة الأمريكية بأن كريستين لا تعرف شيئاً عن أنماط المجتمع الأرستقراطي، وتدرك وضعها الاجتماعي البائس في القرية وعندما ترفعُ الحجاب عن صورة كريستين الحقيقية يقاطعُ كل من في النزل أسرة فولن، فتزداد مخاوف الخالة بأن تخسر مكانتها الاجتماعية ويتطوعُ شخص بالنبش في ماضيها مثلما بحثت فتاة مانهايم عن جذور ابنة أختها.

تعود كريستين مجبرة إلى حياتها التعيسة في فيينا مكتنزة بالوحشة. يعمق وحدتها موت والدتها، فتصبح شخصية انفعالية يتبدى نفورها من أهالي القرية سريعاً. تتقزز من رائحة زميلها التي كانت تكن له شيئا من العاطفة ومن الثياب الرثة مستذكرة أناقة سويسرا. وما يخففُ من قتامة المكان سوى رحلاتها إلى فيينا كل يوم أحد، مما يوفر لها إمكانية التواصل مع شخصية فردينان الذي تذوق مرارة الحرب وتتفق آراؤه مع أفكار كريستين التي تدرك عبثية حياتها المرهونة بالمستوى الاجتماعي وقلة تجاربها الذاتية. تمضي أيام قبل أن يتفق الاثنان على نهب خزينة مكتب البريد، وبالتالي ترفع اليد مؤقتاً من على زناد المسدس. 

لعل أهمُ ما في هذا العمل الروائي مونولوج كريستين وهي ترقب جموحها للحياة وعاطفتها المتأرجحة وتوق البشر للمادة والراحة من جهة؛ والأسئلة الوجودية التي يمررها الكاتب على لسان فردينان الذي يضع كريستين أمام خيارين إما الانتحار أو نهب الأموال من مكتب البريد من جهة أخرى! فمهما كان بينهما شيئاً من الحبّ، تنهش الحرب بأثر رجعي فرص اللقاء. يستحضر إلى ذهنك وأنت تتأمل مفاصل الرواية هو سيناريو الانتحار الذي يختاره الكاتب في منفاه وما يقوله فردينان أن تفوق الإنسان يكمنُ في قدرته على أن يموت عندما يريد وليس فقط عندما يتحتمُ عليه، فكأنما هو يضمر إشارة لما ينتهي إليه مصير زفايغ.

يجدرُ بالذكر أنّ الاشتغال على البعد النفسي هو ملمح أساسي في روايات زفايغ، وقد يبلغ الشغف بالرواية أقصاه ليكمل المتلقي القراءة في جلسة واحدة ولكن بإمكانه تأملها طيلة حياته!  إذ يتفاجأ بارتياد الكاتب لمساحات غير مطروقة في البال.