في 30 يوليو 1940، كتب تشارلز برايور، المقيم السياسي في الخليج، رسالة إلى سكرتير حكومة الهند في سيملا، وجاء فيها بأن “السياسية البحرينية عبارة عن كتلة من الخيوط المتشابكة. فلدينا العرب السنة والعرب الشيعة، والفرس السنة والفرس الشيعة، والشيوخ، والفلاحون الشيعة، والسعوديون، والعراقيون، واليهود، والهندوس، والمصالح البريطانية ومصالح النفط…إلخ”. وبناء على هذه التركيبة السكانية المعقّدة اقترح برايور أن يشترك في كل من يعيّن وكيلاً سياسياً في البحرين، أن تكون لديه خبرة سنتين على الأقل في منطقة الخليج وبلاد فارس، وأن تكون لديه معرفة جيدة باللغتين العربية والفارسية حتى يتمكّن من التعامل مع كتلة الخيوط المتشابكة هذه.
إن بناء الأمة في البحرين هو تحديداً في تحويل هذه الكتلة المتشابكة من الخيوط إلى جماعة متخيّلة واحدة. وقد اضطلعت ثلاث قوى أو أدوات بهذه المهمة وهي: الدولة، وشركة نفط البحرين (بابكو)، والانتفاضات الوطنية منذ العام 1938.
لا يمكن فصل بناء الأمّة في البحرين كجماعة متخيّلة عن بناء الدولة كجهاز إداري مركزي بما فيه من مؤسسات وقوانين وتنظيمات للحكم أو الرقابة أو الإشراف أو التنظيم؛ والسبب أن أدوات التوحيد الأولى التي سمحت بتخيّل الأمّة في البحرين كانت أدوات حكومية بالدرجة الأولى. حين جاء تشارلز بلجريف، مستشار حكومة البحرين من العام 1926 حتى العام 1957، إلى البحرين في العام الذي رحل فيه كلايف ديلي، أي في العام 1926، كانت البحرين، كما كتب، عبارة عن مجتمع منقسم لا على أساس طائفيّ وإثني فحسب (سنيّ وشيعيّ، وعرب وبحارنة)، بل حتى على أساس حضري، فهناك “اختلاف حادّ في البحرين بين سكان المدن وسكان القرى. إن سكان المدن، في المنامة، والمحرق، والحدّ، هم في الغالب عرب وأجانب من التجار وأصحاب المحلّات وتجار اللؤلؤ وملّاك الأراضي”. أما سكان القرى فأغلبهم “مزارعون وصيادون ويغوص كثير منهم في موسم الغوص”. وبين هؤلاء وأولئك “اختلاف إثنّي ودينيّ، ويتجلّى ذلك في المظهر واللباس واللهجة وخطاب الناس، وخاصة في حالة النساء”. لكن هذا تغيّر بعد عشر سنوات، أي في العام 1937 الذي كتب فيه التقرير السنوي الأول لحكومة البحرين. لقد تغيّرت حياة الناس في القرى بصورة محدودة، كما يقول بلجريف، خلال العشر سنوات الماضية (1926-1937)، لكن “نظرتهم تغيّرت إلى حدّ كبير”، فأصبحوا “أكثر استقلالية من ذي قبل، كما تعلّموا اللجوء إلى الحكومة في حالة التعدي عليهم”. والأهم أنهم صاروا “يدركون ويشعرون بالامتنان تجاه مزايا الحكومة المركزية التي جعلت من المستحيل على ملّاك الأراضي أن يأخذوا القانون بأيديهم، أو أن يهاجموا مستأجريهم دون مبرّر”.
لقد اضطلعت أجهزة الدولة الإدارية، حديثة التكوين خلال عشرينيات القرن العشرين، بمهمة تحويل تلك “الفئات القاطنة في البحرين” إلى “أمة”، وذلك عبر شقّ الطرق، وتشبيك الجزر والبلدات والقرى بشبكة مواصلات واتصالات (طرق وشوارع وجسور وإذاعة وشبكة هاتف وتلفزيون)، وبناء المدارس وتعميم التعليم في المدن والبلدات والقرى. الأمر الذي سمح لتلك “الفئات القاطنة في البحرين” بلقاءات واتصالات سهلة وسريعة ومكثّفة، فصار بإمكان أهل قرية الزلاق، في أقصى الجنوب الغربي من البحرين، أن يتخيّلوا قرابة محتملة مع أهل قرية قلالي، في أقصى الشمال الشرقي في البحرين. كما صار بإمكان هذه “الفئات” التقارب والتوحّد حول مصالح ومطالب مشتركة كأمّة. وصارت فرص الألفة وتحويل “العجائب والغرائب” إلى مألوفات اعتيادية، بحيث لا يستغرب بحريني من قرية معينة حين يرى بحرينيًا آخر من قرية أخرى يتحدّث بلهجة مختلفة، ويدين بمذهب دينيّ مختلف، أو حتى لو بدا له بملامح بدنية مختلفة.
على صعيد آخر، اضطلعت شركة نفط البحرين (بابكو) بدور توحيدي مهم، لا على مستوى دعم الحكومة في العديد من الخدمات العامة من شق الطرق وصيانتها إلى إنشاء المدارس وتأثيثها، خاصة في المناطق التي تمثّل أهمية حيوية للشركة وعمّالها، بل لأنها مثّلت واحدًا من مواقع العمل الأولى والأساسيّة التي جمعت آلافًا من العمّال القادمين من كل مناطق البحرين، حيث “تعارف أهل القرية البحرينية والأحياء البعيدة، وانصهروا في بوتقة علاقات” مشتركة، و”اختلطت اللهجات والعادات اليومية”. وما هي إلا سنوات قليلة حتى توحّد هؤلاء القادمون من كل مكان في مطالب ومصالح عمّالية واحدة.
قادت هذه المطالب والمصالح العمّالية الواحدة إلى تنفيذ أول إضراب عمّالي في تاريخ البحرين في العام 1938. وافتتحت، بهذا الإضراب، مسيرة الحركات والانتفاضات الوطنيّة التي اضطلعت هي الأخرى بدور لا يمكن تجاهله في توحيد البحرينيين حول هموم ومطالب وتطلّعات وتضحيات وآلام وحسرات مشتركة. إن ما وحّدته الدولة والشركة بالتعليم الحديث وشبكات الطرق والمواصلات ومواقع العمل ومصالح العمّال المشتركة، فعلته الانتفاضات الوطنيّة عبر رسم حدود الأمّة بكثير من الآمال والتطلّعات والآلام والتضحيات والحسرات. لقد صهرت الانتفاضات الوطنيّة الإثنيات والطوائف والمناطق في بوتقة صهر عظيمة. وبقدر ما كانت بوتقة الانتفاضات مفعمة بالأمل والتطلّع والحلم بمستقبل أفضل، فإنها كانت مؤلمة ومضمّخة بالآلام والتضحيات وتجارب السجن والاعتقال والموت والمنافي والحسرات على الفشل المزمن في تحقيق المطالب منذ القضاء على هيئة الاتحاد الوطني في العام 1956 إلى القضاء على انتفاضة مارس 1965، إلى انتخابات المجلسين التأسيسي 1972 والنيابي 1973، إلى حلّ البرلمان في العام 1975.
إذا كان بناء الأمّة هو حصيلة توحيد إثنيّات وطوائف وجماعات وقبائل في جماعة متخيّلة واحدة، وتحويل تلك “الفئات القاطنة في البحرين” إلى أمة، فإن هذه المهمة اضطلعت بها في البحرين ثلاث قوى أساسية (الدولة الحديثة، وشركة نفط البحرين، والانتفاضات الوطنيّة). لقد مثّلت هذه القوى أدوات التوحيد الثلاث الأساسية، وعملت، بتزاوج قصص نجاحها وآلامها، وبوعي أو بدون وعي، كأدوات التاريخ التي كتبت فصول السيرة الملحميّة لبناء الأمّة الحديثة والجماعة الوطنيّة في البحرين منذ بدايات ثلاثينيات القرن العشرين حتى أواخر سبعينياته.
نعم، قام سوق المنامة تاريخيًّا بدور توحيدي لا يمكن إنكاره في تاريخ البحرين، عبر شبك الجميع بمصالح مشتركة بالإنتاج والتوزيع والتعاون والبيع والشراء والتكامل الاقتصادي. كما يمكن الحديث عن دور مواسم الغوص في تجميع آلاف الغواصين معًا لا على متن السفينة/السفن فحسب، بل في مظالم واحدة قادت في النهاية إلى انتفاضة الغواصين (هدّة الغاصة) في يناير 1927، ومايو 1932. كل هذا صحيح، ولكن ما فعلته الدولة والشركة والانتفاضات الوطنيّة كان عملًا ثوريًّا شاملًا إذا قيس بما فعله سوق المنامة ومواسم الغوص، بل لم يسلم السوق ومواسم الغوص من التغيير الشامل الذي أحدثته الدولة والشركة والانتفاضات الوطنيّة. فعلى الرغم من وجود آلاف الغواصين العاملين في استخراج اللؤلؤ في البحرين، إلا أن هذا لم يكن يعني توحيد مصالح هؤلاء الغواصين الذين بقوا مستسلمين لوضعهم البائس على نحو قَدَري غريب.
وحتى حين اقتنع هؤلاء بأن وضعهم البائس لم يكن قَدَريًّا، بل هو قابل للتغيير لأنه نتاج ترتيبات بشرية تنتج الظلم والتوزيع غير العادل لأرباح تجارة اللؤلؤ، فإن انتفاضتهم لم تكن فقط خاطفة وسرعان ما هدأت بالقوة، بل إنها بقيت انتفاضة خاصة بهم دون أن تتحوّل إلى انتفاضة وطنية بحكم أنها كانت انتفاضة طبقية من الغواصين البحرينيين وغير بحرينيين (بلجريف يذكر أن بعضهم كانوا من عمان ومن الصومال) ضد النواخذة وأصحاب السفن ومموّليها الذين كانوا بحرينيين في الغالب. نعم، تغيّر الحال حين تحوّل هؤلاء الغواصون البحرينيون إلى عمّال في شركة نفط أجنبية. كانت بابكو شركة أمريكية، الأمر الذي جعل الاحتجاجات ضدها عبارة عن مزيج من الاحتجاجات الطبقية ومناهضة الاستعمار والهيمنة الأجنبية. أضف إلى هذا أن كثيرًا من هؤلاء العمّال كانوا قد تلقّوا تعليمًا حديثًا في مدارس الدولة قبل أن ينخرطوا في حراك الانتفاضات الشعبية.
وما قلناه عن الغوص والغواصين ينسحب على سوق المنامة. فما كان لمركزة سوق المنامة أن تكتمل لولا تدخّل الدولة وبناء شبكات الطرق والمواصلات. كما أننا حين نتحدّث عن السوق في تاريخ البحرين الحديث، فإننا نتحدّث عن حقبتين: السوق قبل شركة بابكو، والسوق بعد بابكو؛ لأن الشركة واكتشاف النفط غيّر السوق وعلاقات السوق على نحو شامل. أما الانتفاضات الوطنيّة فكان إغلاق محلات السوق علامة على نجاح إضراباتها الشاملة، كما أن الإضراب كان يعني نقص القدرة الشرائية للعمّال المضربين. إن مركزة السوق بفضل الدولة، وتثويره بفضل شركة النفط وصناعة النفط، وحتى إغلاقه إبان الانتفاضات الوطنيّة، إنما يعني أن هذا السوق صار موضوعًا وتابعًا وتحت رحمة أدوات بناء الأمّة الحديثة: الدولة، والشركة، والانتفاضات.