آه يا سعيد، كلما تذكرت مأساة قتلك، لا أعرف ما إذا كان علّي أن أبكي دماً من أجلك، فقد كنت عاشقاً كبيراً لوطنك، منذ ذلك الزمن وأنا أقرأ أشعاراً شهدت إنهيار عروش وقيام أخرى، ديوان شعرك، كتاب للحنين والأشواق والوطن والحبيبة، طالبوا بضرورة تفتيش كلّ المكتبات الوطنية وغير الوطنية، كل النسخ المتبقية التي سرقت عقول العمال والكادحين الذين تحولوا إلى وهج داخل الكلمات والحروف ووجدوا أشواقهم في غوايات شعرك، فصدرت الأوامر بحرق كل من وجد في بيته ورقة من ديوانك الذي أطلقت عليه: (إليك أيها الوطن.. إليك أيتها الحبيبة)، فكانت تلك الحروف تغوي العشاق، فالحرف الذي لا يغوي صاحبه مصيره الموت، فكشفت بأشعارك حقائق الدنيا ومظالم السلطان والحكام، وأشعلت ثورة في الرؤوس وفي النفوس، فألّفت همك وأحزانك وأشجانك في شعر نادر أرّق عيون محبي شعرك في انتظار المزيد دون جدوى، فقد مزقوك.
حاربت قسوة الإبتذال، ووقفت شامخاً كالنخلة في هذا الفراغ القاتل، وفي لحظة الحزن والوحدة بدأت تكتب لتحفظ الحروف من النسيان، فكان العمال والكادحين حرفك الأول الذي به افتتحت كتاباتك، فدونت الزمن وصرخات الذاكرة وحنينها في ذلك الزمن البعيد قبل الأوان. كل من عرفك يقول عنك: عندما تنكفئ على الورقة والقلم لا تأبه من أن يملي عليك رأياً أو يزعجك أحد بطلب، تستهلك حبرك بالشكل نفسه الذي تستهلك به كيانك، فتكتب كل ما يمليه عليك ضميرك، فكنت يا سعيد تدّون دون هوادة أحزان وأشجان وألآم شعبك بكل شجاعة واقتدار، فقتلوك. البلاد تغلي وتفوح بعد أن امتلئت بالقروح، وأنت يا سيد الشعراء وأمير الفقراء تردد بأن قلوبنا تسحقها الجروح، بماذا يا ترى يودون لنا أن نبوح؟ كنت تقول: المرأة هي الدنيا، ولا مكان ولا زمان من غيرها، فامتلأنا حباً بها، وأضفت بأن العمال والكادحين صانعو الحياة، فعشقناهم دود تردد أو وجل، فامتلأنا فرحاً وغبطة وأملاً.
كانت أشعارك تنام في قاع القلب والذاكرة نستحضرها كلما هممنا بالولوج بعيدا عن همومنا، نستعرض صور الماضي الجميل الغائبة، نتمثل شجاعتك وصبرك وعنفوانك، فغنينا بأشعارك:
أنت يا زويا
لكِ القلب فغني وارقصي
واعزفي اللحنّ حميلاً
مثل ما تعزفُ كلُّ السنبلات
ودعي الحزنَ على قارعة البابِ يموت
فغداً يأتي بابا
وغداً يزهرُ حقلُ الماءِ
والشارع يغدو أغنيات
وطيورُ النورس الباكي تصحو
وتغني الفتيات
مثلما غنتْ زهورُ الحقل في يوم الربيعْ
كنت رجلاً قليل الكلام، لكنك شعلة من الحركة والإتقاد، كنت تود للديموقراطية أن تكون حقيقة لا واجهة إشهارية فقط، كنت تقول الجوع والفقر عدو الديمقراطية، تطالب بالتعددية السياسية فآمنا بما تقول. بحدسك الذي لا يخطىء عرفت بأن الوطن يعود إلى الوراء بخطى حثيثة بعد حلّ المجلس الوطني ووأد أول تجربة برلمانية في العام 1975، وشعرت بانتكاسة يهيْ لها في الخفاء تعيد إلى الواجهة كل التقاليد القمعية والإستبدادية.
فهمنا ساعتئذ أن الاحلام التي تسربت في أعماقنا عن الديمقراطية والحرية والتعددية السياسية وحقوق الإنسان بدأت تذوي وتذوب، ونـحن نرى الهمجية تدق على الأبواب، وبدأ عصر التوحش يزحف شيئاً فشيئًا، فكان علينا أن نأخذ الحيطة، فالنيّة الطيبة لاتصنع سياسة ولا مجداً للأوطان، فأشعرنا شعرك بأن الكارثة المحدقة بك وبغيرك من الرفاق قد اقتربت، فأظلمت الدنيا في عيوننا وعرفنا بأن القادم أعظم.
لكن الخيارات لم تكن كثيرة. كل شيء بدا غامضاً ومُربكاً وغير قابل للفهم وعصياً عليه. كتابك الوحيد الصادق يقول إن التاريخ لا يعيد نفسه أبداً ولا يتكرر مطلقاً، ولذلك عملت على جبهة العمال، فهم حماة الوطن وقلبه الحي النابض للخروج من مأزق الطائفية الذي ابتلينا بها واستوطنت فينا كالطاعون. تكتب أشعارك كلما وجدت فسحة صغيرة وسط هذا اليأس والخراب لتعطي للأمل مساحة، فالكتابة بالنسبة لك غواية ومبتغى يجدد خلايا الدماغ ويعطي للحياة نكهة، لأن الفاجعة لا يرممها إلا الحرف الوهاج.
كتبت قصيدتك وسميتها (الطريق المؤدي إلى المهرجان):
أتذكرُ لحظَ التقينا معاً في الطريق المؤدي
إلى الموت ؟؟
قلتُ: نعم.
والتمستُ الفجاءة
كانت طريقاً إلى الرفض
هل تذكرين البلاد التي أودعوها المتاهات
روما تذكرتها زهرةً لم تمُت
والقلاعُ التي خبأوني بها لم تعشْ
لا شيء في الأفق سوى الخوف، والهروب من الفاجعة التي لاتورث سوى الإحساس بالموت بعد توقف دواليب الحياة عن الدوران. كنت يا سعيد كمن يريد ترتيب أحجار التاريخ المبعثرة فكتبت قصيدة عنونتها (بطاقة):
يا رفيقي
ها هنا أقبع عريانا أصلي
ها هنا أسجد في محراب شمس الله ملتاعا
كنافورة دم في صدور الفقراء
ها هنا أقبع وحدي
مستجيرا من عذابات السنيين،
وأصلي، جاثما فوق قيودي الأزلية
وأغني لأله في متاهات المقابر
جسدي يطفح فيه الدم والعالم مملوء
بنهر الوجع في صدر الملايين
وأوراق الشجر
ها هنا يقبع وجهي في ملفات السلاطين
وأبقى ها هنا منكفئا أرسم وجه العالم
المشتاق للقتل وأوراق الخريف
آه أوراق الخريف،
كلماتي، وأغانيّ، وأشعار البلابل،
مزق من خرقة الصوفي فوق الرأس
مكتوب على واجهة السجن ولحن الأغنيات
كانت أشعارك يا سعيد كالصاعقة تنزل على صدورهم، فشعروا بالحيرة تتسلق عيونهم، فخافوا، فشّرعوا الزنازين لاستقبالك وهم بأملون أن تذبل حروفك وتباد وتنسى كلمات قصائدك، ولكن هل تموت الحروف؟ كنت تعلم أن موتك سيكون شنيعاً ولهذا لم تسأل عن شكل الموت ولا الطريقة، لم تصرخ، لم تقل كلمة واحدة، واجهت مصيرك ببلاغة نادرة، الصمت والدهشة، كنت محاطاً بمجموعة من القتلة المدججين بالأسلحة والهراوات وهم يتآكلون غيظاً وحقداً عليك، فالحقد عندما يبدأ في الاجتياح، تصبح كل الأشياء مباحة، وأنت الوحيد بينهم لا تحمل سوى روحك وسلاح الكلمة، تتأمل مشاهد الموت عن قرب، وكنت تقول لهم، الموت لا يهمني مطلقًا. كنت مهتماً بالفقراء والوطن وبأحلام شعبي وبرضى قلمي، ولكن منذ اللحظة الأولى كانت النهايات محددة سلفاً.
كنت تقول لهم أية حماقة تافهة منكم يمكنها أن تحرق البلاد وتهلك العباد وتجر الوطن الى المحرقة، ولكن هم لا يأبهون لأي كان ولا يفهمون شيئاً إلا البطش، فعّم الخراب، وساد الاٍرهاب فولدت الكارثة وأنجبت الرعب والدم والخوف والعذاب. بدأت مسارات الفاجعة تتضح، وبدت الأمور مؤكدة، كل شيء بدأ ينزف والقلوب تزداد ضيقاً والآلام تزداد اتساعاً، والحزن عمّ البلاد، فزادت الخيبة واليأس، والأحلام بدأت تفقد سبيلها إلى الحياة، وأصبحت حركة الزمن تسير بسرعة مذهلة نـحو الدمارالأكيد، ومع ذلك فإن للموت لغته وللحياة فرصتها وللشعر هيبته، فملأت الدنيا بأجمل الأشعار يا سعيد.
كنت تعرف بأن لاشئ يأتي بالودّ والورد، ومن أجل ذلك ضحيت بالغالي والنفيس، بأغلى شيء: حياتك، فأصبحت سيرة الذين لا يموتون وذاكرة الآتين والباقين وأيقونة الذين يحلمون بوطن لا يأكله البطش ولا ترهقه الفضاعات، ولا يرجف فيه الأمل، فحملت شعلة النضال من أجل وطن حرّ وشعب سعيد.