قبل سنوات شاهدت فيلمًا وثائقيًا على إحدى محطات التلفزة، الفيلم بسيط ورتيب الإيقاع، ولا يحمل أي عنصر من عناصر الإثارة. “زوجات عباس” فيلم يروي حكاية زوجتين أرملتين ووحيدتين، غادرهما الزوج عباس منذ زمن، وبقيتا تقطنان البيت نفسه وتتشاركان فيما تبقى لهما من حياة منقضية وخالية من أي عمل او اجتماع بشري. تقضي الأرملتان وقتهما الطويل والممل في أداء الصلوات وقراءة القرآن والتسبيح وتناول الطعام والثرثرة حول ذكريات بعيدة، ثم يحلّ الصمت وتجلسان الساعات الطوال في التحديق في الفراغ. النشاط الوحيد الذي تمارسانه يوميًا خارج إطار الحاجات الطبيعية والعبادة، هو فتح صندوق الملابس القديم واستخراج كفن أبيض خاص بكل منهما وفتحه وتصفيفه وإعادة طيّه من جديد ووضعه في مكانه. هكذا كل يوم.
عن الفراغ الطويل والكثير الذي يعيشه البشر في زمننا، أود أن اتحدث في هذا المقال، بعد أن اكتسحت التكنولوجيا المتطورة والأتمته كل نواحي حياتنا وسّهلتها وبسّطتها وقللت من فترات الإنتظار الطويل. على عكس زوجتي عباس اللتين عاشتا دون أجهزة محمول وحواسب وهواتف وتلفزيونات ووسائل ترفيه متنوعة، فإن أهل هذا الزمان أكثر فراغًا منهما، فهذه الوسائل منحت البشر وقتًا اطول وعملًا أقل، وثمّة فئة وعت إلى هذا الفراغ القادم لا محالة واختبرت بداياته وجرّبت مساوئه، فاستعدت له بالإنخراط عميقًا في لجّة الحياة ومعاركها الجديرة بالدفاع عنها والموت من أجلها وبالبحث عن الهوايات والمهارات الجديدة وتعلمها وتنميتها، وفئة باغتها غول الفراغ فاستسلمت له وصارت نهبًا لأمراض الإكتئاب والإنسحاب من الحياة ومحاكاة زوجتي عباس.
اللافت أن البشر يتساوون في التعامل مع الفراغ، إذ لم تمنح الوفرة المالية أوقاتًا أجمل ولا حياة أمتع للميسورين والأغنياء والمترفين الذين جربوا كل شييْ واكتفوا من كل شيئ في زمن قياسي، بل صار التحدي هو في قدرة المرء في الحصول على شغفه الخاص به والإنشغال به والتمتع به والتفنن فيه وصدّ هجمات الفراغ والضجر وشيخوخة الذهن ونسيان وجود كفن في دولاب الملابس.
على منصّات التواصل الاجتماعي نرصد بشراً متنوعين وتكاد تستشعر حجم الفراغ الذي يكتسي حياتهم المملة والمنعدمة المعنى والهدف، فيملؤونه باستعراض بيوتهم وملابسهم وانشطتهم وماذا اكلوا وأين سهروا؟. ربما يكتنفهم الخوف والرعب من نسيان الناس لهم ، بينما هم – أو هكذا يرون أنفسهم – جديرين بالحسد والغيرة .
ولعنا نرى أن البشرية على كوكبنا اختبرت الفراغ الأكبر في مسيرتها مع غزو فيروس “كورونا” منذ ثلاث سنوات والذي أدى إلى الإغلاق والتباعد والحجر والبقاء في المنازل وعدم الاختلاط، وربما ضجت الناس من تداعيات المرض وما تولد عنه من وحدة قسرية وفراغ أكثر منه مرضًا ومعاناة وموتًا .
حتى أولئك الذين نعتقد أنهم اكثر انشغالا من غيرهم كالمسؤولين ومن يشغلون الوظائف والمسميّات العليا فما هم – احيانا – إلا متسولين وفقراء على أرصفة الفراغ وباحثين مثلهم مثل غيرهم عن نسمة انشغال مفرحة وجميلة ومختلفة تعيد الوهج إلى حياتهم الفارغة. احد مدراء البنوك قال لي ذات مرة أعمل ثلاث ساعات في اليوم فقط، أما باقي الوقت فأقضيه في مكتبي في لعبة الورق على الهاتف، وإذا زارني عميل أو موظف تذرعت بالإنشغال وضيق الوقت ومثلت دور “المشغول” .
طرحت سؤالاً: “كيف تديرون فراغكم” على عدد من جروبات الواتس اب الخاصة بي، ففوجئت بالكثيرون يقولون “لا وقت فراغ لدينا ولا تكفينا ال24 ساعة اليومية، ونحتاج إدارة رشيدة للوقت وليس إدارة الفراغ” قالت اخرى: “حين يخلو يومي من المسؤوليات اتفرغ لنفسي فقط ولقراءاتي المحببة”، فيما قالت ثالثة: “تستنزف الواجبات العائلية كل وقتي” وقال رابع: “نحن اسرى الهواتف متسمرون طوال اليوم أمام شاشاتها عملًا وتواصلًا ولهوًا وإشغالًا للوقت ” .
واستنتجتُ أن الكثيرين يرون الفراغ معيب جدًا، ما يحملهم على نكران وجوده في حياتهم، فيلهثون لتعبئته “فالفضاوة ” ارتبطت في الاذهان بكونها رديفة التفاهة والغباء والبلادة وانعدام المواهب والإنجاز، لكن في منتصف العمر أو ربما في اواخره قد يجد الإنسان ضالته ويعرف أين تكمن سعادته وشغفه فيترك ما اعتاده من عمل روتيني ويجري خلف مطمح جديد وحلم واعد وباعث على الفرح والسعادة مرددا مقولة ارخميدس الشهيرة: “وجدتها.. وجدتها”.