حالة القلق التي أحدثها ويُحدثها مشروع قانون التقاعد الجديد المعروض منذ ما يقارب العام امام لجنة الخدمات في مجلس النواب، مبررة وبالامكان تفهم أسبابها ودوافعها، ويمكن للمتابع لردود الأفعال والمخاوف التي يحدثها هذا المشروع أن يتلمس عن قرب حجم المعاناة والخوف من المجهول الذي ينتاب شرائح واسعة من المتقاعدين او الذين يقتربون للدخول قريبا ضمن فئة المتقاعدين من الرجال والنساء.
المشكلة لا تكمن أساساً في مبدأ التعديلات بحد ذاتها بقدر ما هي في طبيعة ونوعية التعديلات المقترحة وما ستحدثه من آثار اجتماعية واقتصادية وحتى نفسية، فهي من جانب محدد ودعائي تبدو أنها ترمي فقط، وكما هو معلن رسمياً، واصبح معروفاً لدى رجل الشارع العادي بأنها ضرورية لتحقيق استدامة الصناديق التقاعدية وتقليص عجوزاتها، خاصة صندوقي التقاعد في القطاع العام والصندوق الآخر في القطاع الخاص، وهذا الأخير اصبح لزاما عليه ان يتحمل أعباء الصندوق الآخر في حقيقة الأمر وكل ذلك وبفعل كافة الممارسات والتجاوزات والفساد الذي جرى طيلة الفترة الممتدة منذ انشاء التأمينات الاجتماعة سنة 1976 وحتى الآن، بالإضافة طبعاً إلى القرارات غير الحصيفة وغير المدروسة التي تسببت في استنزاف مستمر للصناديق التقاعدية وعلى وجه التحديد في صندوقي التقاعد العام والخاص.
ومن خلال ما اصبح معلناً يبدو واضحا أن التوجهات الحالية القائمة تتجه لإصلاح ما أفسدته تلك الممارسات التي لم تتوقف على الرغم من تشكيل ثلاث لجان تحقيق نيابية منذ العام 2003 وحتي تاريخه، ولم تشفع كل تلك التوصيات والمعالجات التي رفعت للحكومة وباتت معروفة لدى المتابعين لهذا الملف الهام والحساس والخطير في آن، في تحقيق ولوحتى بعض الإصلاحات المطلوبة.
كما أن الجهات المعنيّة بإصلاح أوضاع التأمينات لم تحرك ساكناً طيلة السنوات الطوال الماضية واكتفت في كل الحالات إما بتطمين الناس بصلابة الموقف المالي للصناديق أو في بعض الأحوال بإخافة المتقاعدين والمشتركين على حدٍ سواء بما يصدر من تقارير اكتوارية مفزعة، والتي استخدمت في الكثير من الأحوال كأداة للضغط على المشّرعين وعلى عموم المتقاعدين والمشتركين في التأمينات من أجل القبول بالحلول الصعبة والتي يعلم مطلقوها أنها دائما ما كانت تأتي في الأوقات المعيشية والاقتصادية الصعبة.
المشروع المطروح طيلة الأشهر الماضية أمام لجنة الخدمات بمجلس النواب يستند على بنود ستة صعبة لا مجال هنا للشرح حولها أكثر، وكان بالإمكان تفادي معظمها منذ فترة طويلة لو لم تنم مجالس الإدارة المتعاقبة في العسل، ولو سخّرت العقول الاقتصادية الحقيقية للتعاطي مع أوضاع الصناديق بشكل علمي واقتصادي واستثماري مدروس، بدلاً من كل هذا التخبط الإداري والاستثماري الذي أوصلنا في نهاية المطاف إلى أوضاع صعبة لا نحسد عليها في كيفية التعاطي مع أوضاع صناديقنا التقاعدية، وهذا مؤشر يدلنا على ضرورة تغيير النظرة النمطية القائمة حيال مختلف قضايانا، والتعاطي بشكل شفاف معها اقتصادياً ومالياً وعبر إرادة ووعي سياسي ومجتمعي لا يجب أبداً أن يستند على الحلول الترقيعية أو حتى على النوايا وحدها بل على العلم والإدارة الواعية المسؤلة وإحلال الكفاءات وتحقيق المساءلة.
سبق أن دعوتُ منذ أسابيع إلى أن يقوم الناس بدورهم في دعم ومساءلة ومتابعة وحتى توجيه من سيشرعون باسمهم تحت قبة البرلمان ليس فقط في مسألة التقاعد والتأمينات بل في مختلف الملفات، فالنواب يحتاجون في هذه الفترة كما في كل الفترات إلى الإسناد، لا إلى التقريع أو التفرج عليهم عن بعد وهم يرتكبون خطأ هنا وزلة هناك، فالمسألة ليست نزهة في نهاية الأمر والقرارات التي ستتخذ ستكون مصيرية وستتحملها الأجيال الحالية والقادمة ما لم يحدث أي تغيير ايجابي مستقبلا على قانون التقاعد.
وهنا يجدر القول إن قوى الضغط المجتمعية من جمعيات سياسية ونقابات واتحادات عمالية ومؤسسات مجتمع مدني وشخصيات مؤثرة هي الأخرى تتحمل مسؤولية الضغط باتجاه تحقيق إصلاحات وازنة ومتدرجة ومدروسة بعناية، تأخذ في الحسبان ما هو ممكن معيشياً وما هو غير ممكن في ظل ما هو قائم من أوضاع صعبة، خاصة في ظل استمرار ردّات الفعل التي عايشها الشارع البحريني ولازال بسبب إقرار زيادة ضريبة القيمة المضافة الأخيرة إلى %10 بأغلبية ثمانية أصوات، بالإضافة إلى تجمد أجور السواد الأعظم من المواطنين منذ ما يقرب العشرين عاماً، ومع توقف زيادة المتقاعدين السنوية والتي هي معادل لنسبة التضخم المعلنة، علاوة على دخولنا مع العالم من حولنا ضمن تداعيات جائحة كورونا والتي تسببت في كل هذا الخراب الاقتصادي عالميا، يصبح من نافلة القول إن أي معالجات مقترحة للوضعين الاقتصادي والاجتماعي تحديدا، باتت تستدعي اليقظة والوعي وتحمل المسؤلية بدلاً من الإسترخاء وتقاذف المسؤليات بين الفرقاء دون طائل!