الوقت يمرّ من بين أيدينا ويتخللنا في غالب الأحيان دون أن نشعر، ماهو ذلك العداد الوهمي الحقيقي والإطار الذي لا يمكن أن نخرج منه؟ ما أصل ذلك الشيء المسمى بالوقت أو الزمن time الذي نحدد به أعمارنا، أعمالنا، فراغنا حتى نومنا واستيقاظنا؟ ما ذلك الشيء الذي يمتد في خط مستقيم دون توقف، بحيث لو افترضنا أن حدثاً ما وقع قبل ثانيةٍ من الآن فإننا بكل طاقاتنا المهولة لن نستطيع أن نرجع بالوقت ثانية واحدة للوراء أو نقدّمه ثانية واحدة للأمام! ثمة من يُرجع هذه الأمور الى القَدَر أو سوء الطالع وحُسنه، وهناك من ينغمس في الماضي يريد الرجوع إليه ومن يتملكه الإضطراب من المستقبل…
في شذرة من تأملات أنيسكيمندر- من فلاسفة الطبيعة ماقبل سقراط – يقول: “الأشياء تتحول من بعضها إلى بعض وفقاً للضرورة وتقيم العدل بينها وفقاً لنظام الزمن”. لكن، ماهو نظام الزمن؟ هل هو الشيء الذي تقيسه ساعة يدي الآن؟ هل نوجد في الزمن أم يوجد فينا؟- تسأل أليس ماطول الأبدية؟ يجيب الأرنب: أحياناً ثانية واحدة لا أكثر! يقول كارلو روفيللي في كتابه نظام الزمن معقباً: “ثمة أحلام لا تستمرأكثر من لحظة واحدة يبدو فيها كل شيء وقد تجمّد إلى الأبد، الزمن مطاطي في خبرتنا الشخصية معه، الساعات تنقضي سريعاً مثل الدقائق والدقائق قد تكون بطيئة ثقيلة الوطأة كما لو كانت قُروناً.
من ناحية نجد الزمن منظّماً في الروزنامه الطقوسية: عيد الفصح يعقب الصوم الكبير والصوم الكبير يتلوه الكريسماس، شهر رمضان يستهل بالهلال ويختتم بعيد الفطر…إلخ، ومن ناحية أخرى كل تجربة صوفية مثل اللحظة المقدسة (الفناء في الذات الإلهية) التي ينذر لها سالك الطريق نفسه تلقي بالمؤمن بها خارج الزمن وتقيم اتصالاً بينه وبين الأبدية، إذن كيف أدخلنا في رؤوسنا أن الزمن يمرّ في كل مكان بالسرعة نفسها قبل أن يكشف لنا آينشتاين خطأ تلك الفكرة”
يرى أرسطو أن الزمن قياس التغيّر، إذا لم يتغير شيء فلا زمن: “الزمن هو: رقم التغيّر، مابين قبل وبعد” في حين يقف نيوتن على النقيض من أرسطو، إذ أن الزمن عنده يمرّ بصورة مستقلة عن الأشياء وعن تغيراتها، بحيث لو ظلت الأشياء ساكنة فإن الزمن سيواصل المرور ويكون مساوياً لنفسه دون أن يتأثر، فالزمن وجود مطلق يتدفق بذاته. لم يتقبل معظم الفلاسفة العقلانيين هذه الفكرة فقد رفضها ليبنتز رفضاً قاطعاً فهو يرى أن الزمن يكون تراتبياً وفقاً للأحدث ولا وجود لزمن مستقل بذاته.
أما فيلسوف العقل والمثالية العملاق إيمانوئيل كانط فيفصّل أكثر في الزمان والمكان ويحدد لهما تصورات مختلفة ويضعهما ضمن الحدس المتعالي بحيث أنهما شكلان أوليّان للحدس الإنساني يحددان كل ما يُدرك بالحواس، بمعنى أن كل الأشياء التي تدرك بالحواس إنما تدرك عن طريق الزمان والمكان. المكان شكل كل ظواهر الحواس الخارجي، أي الشكل الذاتي للأشياء المحسوسة الذي به يمكن وجود أصل خارجي، فلا يمكن تَصوّر وجود أشياء من دون حيّزٍ مكاني، هذا بعكس سهولة تصورمكان ولا أشياء فيه. أما الوقت أو الزمان فهو شكل الحس الداخلي الباطن لدى الإنسان، ولأن هذا الأصل الباطن لايقدم أي رسم (شكل مادي)، فنتمَثّلهُ في تسلسل الزمن على أنه خطٌ يمتد الى ما لانهاية وأجزائه المختلفة تكوّن سلسلةً ليس لها إلا اتجاه واحد وامتداد أوبُعد واحد. {مصدر:عمانوئيل كنت/عبدالرحمن بدوي}
أضاف العبقري ألبيرت آينشتاين الزمن كبُعدٍ رابع يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالمكان الثلاثي الأبعاد كعلامة أساسية للقياس، فبدون الزمن يصبح القياس ناقصاً وسمى تلك الوحدة بالزمكان spacetime كدلالة للإرتباط الوثيق بينهم.
يضع الطبيب والفيلسوف الفرنسي أليكسيس كاريل في كتابه “الإنسان ذلك المجهول”، تصوراً مختلف للزمان وفقاً لجسم الإنسان العضوي والنفسي، يَفترِض أن هناك عالَمين مختلفين لايتداخلان؛ عالَم خارجي وعالم داخلي، إن كل شيء له وجود مادي يشتمل على حركةٍ داخلية وكل جسم له حالات متعاقبة خاصة به ونَسَق خاص، هذه الحركة الداخلية الدائمة لجسمٍ ما هي الزمن الفطري والعمر المفترض له والذي يمكن قياسه بالنسبة الى شيء آخر، هكذا يمكننا قياس أعمارنا مقارنة بالزمن الشمسي وهو حركة دوران الأرض حول الشمس و حول محورها أي تعاقب الليل والنهار منه نقيس الأيام والشهور والسنين.
هذا هو الزمن الخارجي المنفصل عن الداخلي العضوي :”فالعمر -حسب كاريل- حالة عضوية ووظيفية يجب أن يقاس تبعاً لتناسق تغيرات هذه الحالة، ويختلف هذا التناسق من فردٍ لآخر، فبعض الأفراد يظلون صغاراً لسنوات كثيرة على العكس تتبدد أعضاء أشخاص آخرين في مرحلة مبكّرة من الحياة” أي أن مايحدد عمر الإنسان الحقيقي هو الزمن الداخلي العضوي البيولوجي وهو نسبي ومتباين من شخص لآخر. يرى كاريل أنه من غير المنصف أن يُحدَّد عمر التقاعد وفقاً للعمر الخارجي (العداد الزمني) وتجاهل العمر الداخلي، وهي واحدة من المسائل الأخلاقية إذ كيف لشخص انحلّت بعض أعضائه الحيوية في عمر مبكر أن يستمر في العمل بنفس وتيرة الأشخاص الآخرين وينتظر سنّ التقاعد المقرر مسبقاً ليتحصل على كامل حقوقه!
ختاماً، الحنين المفرط للماضي يبعث على الإحباط وخيبة الأمل والتفكير المبالغ به في المستقبل يبعث على الهوس والإضطراب، نحن مابين الذاهب والقادم نمتلك “اللحظة”؛ الآن، هذه اللحظة هي حياتنا هي مايجب أن نعيشه بكل تفاصيله وننغمس فيه، لأننا -كما ذكر الفلاسفة – يستحيل أن نعيش خارج هذا الإطار الإسمنتي السميك “الزمكان”.
على أي حال، يمكننا التملّص من قبضة هذا الزمكان عن طريق الخيال المتمثل في القصص والروايات والملاحم والمسارح والسينما أو قراءة التاريخ وعلوم المستقبل، لكن النقطة الأهم التي يجب أن نرتكز عليها هي الآن “الحاضر” يقول كارلو روفيللي:”العالم الذي منح لنا عالمٌ يُرى من الداخل، لا من الخارج”