أي تراث ثوري عظيم تحمله تلك البلاد، تشيلي، أي معركة ملحمية تاريخية لازال يقودها هذا الشعب منذ اغتيال السلفادور الليندي ضد الفاشية النيوليبرالية، بتحولاتها التاريخية المدعومة من الإمبراطورية الأمريكية والناهب الدولي إلى اليوم، وأي شعلة لا تنطفئ هذه، وأي تبصر حمله الليندي في آخر خطاباته قبل الاغتيال حينما قال: “بالتأكيد سيتم إسكات راديو ماجالانس، ولن يصلكم صوتي بعد الآن. لا يهم. فسوف تسمعونه دائما. سأظل دائما بينكم..هذه كلماتي الأخيرة، وأنا على يقين أن تضحيتي لن تذهب هباء، وأنها على الأقل ستكون درسا أخلاقيا يعاقب جريمة الجبن والخيانة”.
فها هو بعد عقود يتردد صوت الليندي بين الجماهير المنتفضة، تحت هراوات قوى الفاشية ورصاصهم، يعاقب الجبناء والخونة في انتفاضة الجماهير الشعبية في عام 2019 التي قادت إلى تغيير الدستور النيوليبرالي الموروث من عهد ديكتاتورية الحاكم العسكري، وهاهو صوته يتردد اليوم بعد 50 عاما على اغتياله بين الجماهير المحتفلة بنصرها الانتخابي على ورثة بينوشيه، وهاهو صوته يتردد عبر حنجرة الرئيس الشاب المنتخب، غابرييل بورك، الذي صرّح من على منصة النصر: “مثلما كانت تشيلي مهدا للنيوليبرالية، ستكون قبرها “.
وهذا يقودنا الى ما ذكره الكاتب التقدمي برهوم جرايسي في صحيفة “الإتحاد” اليسارية من أن شكل فوز المرشح اليساري غابرييل بورك(35 عاما)، في الجولة الثانية من إنتخابات الرئاسة في تشيلي صفعة أخرى لمحاولات الولايات المتحدة الأمريكية المستمرة منذ عشرات السنين زرع أنظمة موالية لها، تبقي على أوطانها مزرعة للمصالح الإقتصادية والسياسية الأمريكية، إلا أن دول القارة الامريكية اللاتينية لطالما عرفت شعوبها المنكوبة بغالبيتها الساحقة بالفقر والتمييز، كيف تسدد للولايات المتحدة الصفعات تلو الصفعات، لي لا تكون الصخرة الصامدة، كوبا، وحيدة، بالقول لا للولايات المتحدة بكل ماتمثله من سياسة امبريالية استعمارية. والآن تعود تشيلي إلى مجموعة دول باتت في السنوات الأخيرة، أو حديثاً، تقودها قوى يسارية، أو ذات توجهات يسارية، إلى جانب كوبا الإشتراكية، وهي: فنزويلا التي تسجل أسطورة في التصدي للمؤامرات الامريكية، وبوليفيا التى أفشلت في العام الماضي انقلاباً من عملاء أمريكا، والهندوراس التي واجهت خطر انقلاب عسكري، إلا أن الجيش تراجع. والبيرو ونيكاراغوا والأرجنتين، فيما تقول تقارير إن الإنتخابات القريبة في كل من البرازيل وكولومبيا قد تحمل، هي الأخرى، قوى يسارية إلى الحكم.
وفي كل واحدة من إنتخابات هذه الدول، كان واضحا أن امريكا تزرع عملاءها ليكونوا منافسين أقوياء على سدّة الحكم، وبأموال ضخمة، وينجحون في عدد من الدول؛ ولكن حينما يخسرون تسارع واشنطن غالبا للتشكيك بالانتخابات، خاصة إذا كان الفائز المدعوم من اليسار لديه خطاب واضح ضد السياسات الأمريكية وربيباتها من الدول، مثل إسرائيل، التي سارعت وسائل إعلانها للقول في عناوينها، إن الرئيس التشيلي المنتخب غابرييل بورك، من منتقدي إسرائيل بشكل حاد.
ومنذ تأسيسها، سعت الولايات المتحدة لتكون دولة استعمارية لدول أمريكا اللاتينية، إما عن بعد، عبر عملاء، أو بتواجد فعلي في فترات بعيدة سابقة. ولهذا فإن المصلحة الأمريكية هي أن تبقى دول أمريكا اللاتينية فقيرة، مستهلكة، أكثر من أن تكون منتجة، دول ذات أنظمة هزيلة بحاجة للدعم الدولي، في الوقت الذي باتت فيه الإمبريالية الأمريكية، في العقود الأخيرة، القابضة على مفاتيح الدعم الدولي. ولربما أن الأرجنتين والبرازيل بقيتا أقوى اقتصادياً، مقارنة مع باقي الدول، ولكن هذا لا يلغي واقع الفقر في كل واحدة منهما.
وإذا ما نظرنا إلى كل واحدة من الدول التي تقودها قوى يسارية، او ذات توجهات يسارية، أو أن هذه القوى في حالة تناوب على سدة الحكم، تفوز تارة وتخسر تارة، نرى أن الجمهور الأوسع الذي يناصرها لتصل إلى الحكم هو من الشعوب الأصلية، التي حلّ عليها الإستعمار الغربي منذ ستة قرون، تحت تسمية “إكتشاف أمريكا”، بقصد القارتين. وفي حين أن القارة الشمالية كانت عنوانا للمستعمرن من شمال أوروبا، فإن القارة الجنوبية كان المستعمرون فيها من جنوب أوروبا، خاصة إسبانيا والبرتغال.
وكما يبدو، فإن فقراء أمريكا اللاتينية أفضل وعياً من باقي فقراء العالم، إن صحّ التعبير، أو أن الظروف في تلك الدول تساعدهم على أن يكونوا متمردين على بؤسهم، يعرفون عناوين الظلم والاضطهاد، ويوجهون حرابهم نحوها. مايراد قوله، إن شعوب أمريكا اللاتينية تقول لا لأمريكا، وحسب مقولة الشعب الكوبي: “كوبا سي يانكي نو” فصمود كوبا، حتى بعد تفكك الإتحاد السوفيتي والدول الاشتراكية الداعمة لها، بثلاثة عقود هو مؤشر، ولكن لابد من التوقف عند مؤامرتين من سلسلة مؤامرات لا تعدّ ولا تتوقف على شعوب أمريكا اللاتينية، ففي العام 2002 جرى انقلاب من مجموعة عسكرية مدعومة أمريكيا على الرئيس الفنزويلي الراحل هوغو شافيز، فنزل الشعب الفنزويلي، وخاصة جماهير الفقراء والشعوب الأصلانية للشوارع، وحاصرت المباني الحكومية، ولم يكن أمام مجموعة العسكر سوى أن تتراجع، ويعود شافيز إلى منصبه بعد 48 ساعة، محمولا على أكتاف الجماهير الشعبية، والمؤامرات لم تتوقف على فنزويلا حتى يومنا.
في النصف الثاني من العام 2019 أعاد الشعب البوليفي انتخاب الرئيس إيفو موراليس، وهو من أبناء الشعوب الأصلانية في بوليفيا وهو اشتراكي، وله مواقف يسارية سياسية واقتصادية تقدميّة، ومواقف مناهضة للاحتلال الإسرائيلي وسياسات اسرائيل، فشغّلت امريكا عملاءها كي تشكك بالانتخابات، وجرت مظاهرات عنيفة، ودرءاً لسفك الدماء والفوضى، استقال موراليس من منصبه وغادر البلاد، وهنا اندلعت مظاهرات مضادة من مؤيديه. وجرت في العام التالي انتخابات جديدة اختار الشعب البوليفي فيها رئيس حزب موراليس ذاته، المدعوم من موراليس وهو في المنفى القسري، وعاد موراليس إلى وطنه، بعد عام، عودة الأبطال.
وهذا غيض من فيض عن مؤامرات أمريكا وملاحقاتها لقادة أمريكا اللاتينية المخلصين لشعوبهم، وضد السياسات النيوليبرالية والقوى الإستعمارية.
About the author
كاتب بحريني وعضو التقدمي