على مدى اكثر من ثلاثمائة صفحة من القطع الكبير، دوّن الكاتب البحريني د. حسن مدن رحلة الثقافة والمثقفين في الخليج والجزيرة العربية خلال اكثر من قرن .. لقد وقفت بعد ان انتهيت من قراءة الكتاب، على جهد بحثي كبير بذله الكاتب وهو يتجول بين مراحل طويلة وثقيلة ايضا في بقعة من الارض كانت في مرحلة من الزمن تمثل بؤرة (ثقافية) توالدت منها اسئلة كبيرة، مازالت اثارها وتداعياتها ماثلة الى اليوم، ونقصد حقبة ما قبل الاسلام او التي ارهصت له ومن ثم ما بعد ظهوره في الحجاز وما حصل له او بسببه في الميادين التي وصلها.
لقد أجاب الكتاب على الكثير من الاسئلة التي لابد من ان كثيرين كانوا يطرحونها بشكل او بآخر من دون ان يجدوا الاجابة الشافية عنها .. وخلاصتها؛ هو كيف تشكل الخليج والجزيرة العربية ثقافيا بالتوازي مع تشكلهما الحديث سياسيا واقتصاديا، اي اذا ما كان ظهور النفط في حياة شعب او شعوب تلك المنطقة قد نقلها اجتماعيا الى مستوياتها الحالية، فما دور الثقافة هناك وكيف كانت ارهاصاتها الاولى ومن ثم تطورها وهي تواكب تلك التحولات الجوهرية في حياة الناس، وكيف عبّرت عن ذلك او مدى تاثرها هي بالواقع الاقتصادي والاجتماعي الجديد؟
اربعة فصول احتواها الكتاب، ضم كل فصل موضوعات متعددة حيث يعود من خلالها الى تاريخ المنطقة القديم وتشكلها الثقافي ودور الاسلام في كسر عزلتها مع محيطها، والذي اسهم في اذكائها مناخها القاسي، ويتوقف عند مصادر عديدة تتناول تلك الحقبة وما سبقها او تلاها، اي بعد الإسلام، والجدل الثقافي الحديث بشأنها او بشأن توصيفها وصولا الى تأسيس (المملكة العربية السعودية) بوصفها اهم واكبر بلدان المنطقة، والمرجعية الثقافية التي وقفت وراء ظهورها كدولة موحدة على خلفية التحالف (السياسي – الثقافي) ممثلا بابن سعود والاخوان (الوهابيين) وانعكاس ذلك على واقع تلك البيئة التي اسهم الاستعمار الاوربي، البرتغالي والهولندي، ومن ثم البريطاني وحملات التبشير التي سبقته أو كانت من مقدماته الاستكشافية، في خلق واقع ثقافي جديد نسبيا، جاء كرد فعل على الحملات التبشيرية (المسيحية)، بوصفها فعل ثقافي وافد ومرفوض، قابله فعل ثقافي محلي مضاد او مقاوم له، وتمثل في نشاطات لاتنطوي على قيمة عالية لكنها اصبحت بمثابة القدحة وسط ظلام المنطقة التي ستعيش واقع ما بعد اكتشاف النفط وتكتشف معه ذاتها تدريجياً.
شخصيا، أرى أن البعثات التبشيرية هي عنوان لمهمة مخابراتية تهدف الى قراءة واقع المنطقة من قبل الاوربيين، تمهيدا لاستعمارها وقتذاك .. ولعل دور الجاسوس البريطاني الشهير مستر همفر في القرن السابع عشر وصولا الى لورنس العرب وعبدالله فيلبي، مطلع القرن العشرين، يؤكد هذه الحقيقة ..! في العموم اضاء الكاتب د. مدن الكثير من المناطق المعتمة بالنسبة لي ولغيري من الذين يرغبون في معرفة التشكل الثقافي هناك في بداياته وتمازجه بالسياسي، الاشارة هنا للوهابية والحملات التبشيرية وغيرها حيث يفصّل وبرؤية المثقف المطّلع، معتمدا على مصادر دقيقة وظّفها بوعي وبما يجعل القارئ يعيش تفاصيل تلك الحقب وباسلوب شيّق يبتعد عن الاسهاب الممل: الاندية الثقافية والصحافة الاولى والرواد المؤسسين، يستعرضهم الكاتب، بنشاطاتهم واحلامهم الكبيرة ومكابداتهم ايضا، وهم ينحتون في الصخر ليؤسسوا لثقافة استلهمت الكثير من محيطها العربي ممثلا بأهم ثلاثة بلدان هي العراق ومصر وبلاد الشام، وكان هذا بداية فك العزلة الثقافية، مطلع القرن الماضي.
دور الهند وعلاقة منطقة الخليج بها، والنشاط التجاري معها وتواصلها هي ايضا مع تلك المنطقة، كان له دور في صيرورتها الثقافية، وكذلك دور الحركات السياسية والاحزاب التي تشكلت، ولعل البحرين هي الاهم والاكثر ريادة في هذا المجال، بسبب تنوعها الثقافي وتواصلها مع العراق اكثر من غيرها.
ويحضرني هنا ما ذكره الشاعر البحريني الكبير قاسم حداد، في لقائه على قناة العربية ضمن برنامج (روافد)، وكيف تعرف الى العراق صحبة اهله صغيرا بسبب زياراتهم العتبات المقدسة في النجف وكربلاء… ومن ثم يتطرق الى شخصيات مؤثرة في دول تلك المنطقة ويستعرض سير حياتهم الثقافية والانسانية، بوصفهم روادا مؤسسين وكيف تنافذوا مع محيطهم العربي، كلّ في مجاله .. بصراحة وجدت صعوبة في الحديث عن هذا الكتاب، كونه غني جدا، وان اي اختزال له قد يظلمه لما فيه من معلومات مهمة كثيرة يصعب تجاوز بعضها لحساب البعض الاخر، بمعنى انه من الصعب اختصاره أو تلخيصه.
الكتاب سيكون من المراجع المهمة للدارسين، لأنه تناول رحلة الثقافة هناك بمفهومها الشامل والواسع، حيث حضرت وبشكل مفصل المرجعيات السياسية ( ليبرالية – دينية – يسارية – قومية .. الخ) وانعكاسها على حياة المجتمعات وتأثير المجتمعات في صنعها او افرازها الى جانب النشاطات الثقافية الادبية والفنية وكيف اسهم كل هذا في صناعة مجتمع وجد نفسه فجأة في قلب الاهتمام العالمي ووسط ثروة دفعت باتجاه تحولات مجتمعية راديكالية، وكذلك يتجول الكاتب بين مثابات ثقافية عربية كثيرة، زامنت حقبا مختلفة من حياة تلك المنطقة وتنافذت معها، بالاضافة الى التحولات الكبرى التي شهدها القرن الماضي واسقاطاتها المباشرة على تلك البقعة الحساسة من العالم.
الشيء الذي أجد من الضروري الاشارة اليه، هو قول الكاتب نفسه: “لماذا ظهر حداثتنا الى الجدار؟!، ويقصد حداثة الخليج والجزيرة العربية، حيث معالم المدنيّة التي أعطت المنطقة صورة مغايرة تماما لما كانت عليه قبل عقود قليلة، ولاشك أن السؤال الذي يأتي في الصفحات الأولى من الكتاب، تأتي الاجابة عنه في المتن، حيث يوضح سبب اختياره هذا العنوان، ويجيب كما لو انه يلخص مقولة كتابه: “إن التحديث في مجتمعاتنا الخليجية مازال يتكئ على جدران، اي على الجانب العمراني المظهري غير الخافي عن الأعين، وهذا الجدار نفسه يتحول، مع مرور الوقت، إلى صدّ بوجه تقدم الحداثة ….” ولكلامه بقية طبعاً.!