بشوق وترقب ولهفة قرأت كتاب حسن مدن (حداثة ظهرها إلى الجدار) الصادر حديثًا عن دار الرافدين والذي يقع في 295 صفحة من الحجم الكبير إضافةً للمصادر والمراجع العديدة، والتي أضافت لتلك الصفحات عشرين صفحة اخرى، واحتوى الفهرس على مقدمة وأربعة فصول وخاتمة وخلاصات وتحديات، إضافة إلى مدخل استرسل فيه مدن كثيراً.
لا شك أن الجهد المبذول لكتابة هذا المتن كإن كبيرًا جداً بحكم تعدد تلك المراجع وانتقائها بعناية لتصب في موضوع الكتاب وأهداف الكاتب وانشغالاته. فانشغال حسن بالتحولات الثقافية في الخليج العربي ليس جديداً كما يشير في المقدمة؛ فقد كانت له أوراق ودراسات سبقت إصدار هذا الكتاب، ولكن من أجل التوسع وتتبع مسارات الثقافة في الخليج ذهب بعيداً ليستخلص نتائج مهمة استطاع بها أن يبحر عميقاً في مدلول الثقافة وأهميتها ودورها، ورؤية المشتركات بين بلدان منطقة الخليج العربي والتأثير والتأثر بثقافات أخرى لكسر العزلة كما سماها عن المحيط العربي، إلى جانب تاثير الهند على النخب الثقافية الأولى بحكم توجههم إليها.
يتناول الكاتب الحداثة من منظور التفريق بينها وبين التحديث، ويستند في ذلك إلى ما ذهب له سعد الله ونوس من أن الحداثة التي داهمتنا هي (حداثة برانية، وليست جوانية)،لأنها لم تنشئ في تربتنا العربية، أما التحديث فليس أكثر من إدخال التّقنية والمخترعات الحديثة، وإن مجتمعاتنا ما زالت بعيدة عن الحداثة العقلية.
في هذا الكتاب بالغ الأهمية يعرج حسن مدن على الدور التنويري الذي قامت به القاهرة وبيروت ودمشق وبغداد في صنع ميراث الحداثة العربية، ويشير في ذلك إلى مناخ الانفتاح وحرية النشر ودورهما (في تعميم المؤلفات والكتب الحاملة لأفكار الحداثة). وهنا يؤكد على الأدوار المهمة لـرفاعة الطهطاوي والمفكر الحداثي طه حسين ومشروعه الفكري الذي (مازال حاضراً حتى اللحظة وسيبقى الدليل والمرشد للمستقبل). في عالم متعدد الثقافات، من الطبيعي أن يحدث تلاقح وتنافر في ذات الوقت بين القديم والجديد، فالصراعات المجتمعية على أشدها وليست دول الخليج بعيدة عن هذه الصراعات وانعكاساتها، فمسار الحداثة من الطبيعي أن يكون معقداً، وما أحدثه اكتشاف النفط من تحولات هيكلية زاد من هذا التعقيد والإرباك.
فالحداثة في مجتمعات الخليج والجزيرة العربية (ممتنعة) حسب توصيف باقر النجار الذي يوافقه عليه مدن لأنها حسب تعبيره حداثة ظهرها إلى الجدار. في الفصل الأول يتطرق الكاتب إلى أدب الجزيرة العربية وإلى العزلة التي واجهتها إلى أن جاء الإسلام ليكسر هذه العزلة بمفهومها النسبي، حيث كان الشعر الجاهلي، وكان العرب يؤلفون شعرهم ونثرهم بلهجة قريش (لأنها أفصح اللهجات، فضلاً عن أن سدانة هذه القبيلة للكعبة كتب للهجتها السيادة). فبظهور الإسلام وتوحيد الجزيرة العربية وانطلاق الفتوحات وانتقال المركز الحضاري إلى الشام ومن ثم بغداد والمغرب العربي والاندلس والقاهرة مما أفقد الحجاز مركزها، كل ذلك تولاه الكاتب بالشرح المفصل وبصورة تحليلية دقيقة مستندًا إلى العديد من المصادر، ووثق بذلك مرحلة مهمة من تاريخ الجزيرة والخليج حتى تأسيس المملكة العربية السعودية والأحداث المرافقة لذلك من حروب ونزاعات وحركات دينية وسياسية كحركة محمد بن عبد الوهاب الدينية والإرهاصات الناتجة عن ذلك، وأتى عليه بشكل يدعو إلى الثناء على هذا الجهد المميز.
في الفصل الثاني من الكتاب يرصد التحولات في مجتمعات الخليج العربي قبل اكتشاف النفط،ويعرض في هذا الفصل قبل ذلك حال منطقة الخليج من ناحية تاريخية، حيث أظهرت التقنيات الأثرية تأثرها بحضارة وادي الرافدين، ومن ثم تكالب الغرب على المنطقة كالبرتغاليين والهولنديين والانجليز والفرنسيين. فالمنطقة لم تكن قفراً من الثقافة والأدب في تلك الفترة كما يرصد مدن،ف كانت الأشعار خاصة شفهية ومدونة، والأمثال الشعبية والحرف، وكان كل ذلك قبل اكتشاف النفط. كما أن مدن توصل في هذا البحث بأن الثقافة في الخليج ذات قواسم مشتركة رغم وجود الخصوصيات والفوارق بينهما، ويذكر هنا سيرة عدد من الادباء والمبدعين الخليجيين كالشاعر إبن المقرب العيوني المولود في الإحساء، وخالد الفرج من الكويت، البحريني عبد الرّحمن المعاودة والعُماني عبدالله الطائي.
وفي معرض التطرق للمؤسسات الأهلية ذات الطابع الوطني الشامل العابر للطائفية والقبلية يعدد طائفة منها كالديوانيات والمساجد في الكويت وهي أمكنة يجتمع فيها النخبة من المثقفين قبل قيام الأندية والمنتديات الثقافية، وكان منتدي الشيخ إبراهيم بن محمد الخليفة في المحرق أول منتدى في مطلع القرن العشرين. أما عن الأندية فكان هناك نادي إقبال أوال والنادي الادبي الإسلامي، النادي الأدبي في المحرق والمنتدى الإسلامي في المنامة.
كما أن مدن إلى جانب البحرين تطرق أيضاً في هذا الكتاب إلى حال الأندية والمنتديات الأخرى في دول الخليج الأخرى وكيفية نشوءها وتطورها وبطبيعة الحال لكل نادٍ قصة ودور ورواد وتوجهات شرحها الكاتب بالتفصيل مستندا إلى العديد من المراجع التي تعزز ما تم عرضه وما ذهب إليه. وفي هذا المضمار لم ينس أيضا دور المدارس ونشأتها وبدايات عملها ومؤسسيها والدور الذي لعبته في كل بلد من بلدان الخليج العربي. وكما كل ثقافة تنشأ وتتطور لابد وأن تكون لها رافعة فقد لعبت الصحافة العربية التنويرية هذا الدور(حيث كانت تلك المطبوعات تأتي مع التجار والسفن المارة بعد افتتاح قناة السويس في عام 1869 وانتعاش حركة الملاحة بمياه الخليج، وأتت الصحف من بلاد الشام بعد إنشاء الخط الصحراوي بين دمشق وبغداد عام 1924 ).
جاء الفصل الثالث تحت عنوان – الهند نافذة الخليج الثقافية الأولى على الآخر – ليقول بأن الدور الكبير للهند الذي لعبته حضارة وثقافة في البواكير الأولى لبلدان المنطقة وتأثيرها على الرعيل الأول من أهل الأدب والثقافة كان كبيراً، فكان السفر والإقامة للمتمكنيين مالياً متاحاً ليجدوا فيها (نافذة على ثقافة أخرى غير ثقافتهم أثرت معارفهم).
كما أن للهجرة الهندية إلى بلدان الخليج العربي تاريخاً يمتد طويلاً لأكثر من قرنين، وهنا يشير الكاتب إلى تلك العلاقات الممتدة في مختلف الجوانب الاقتصادية والسياسية وغيرها، والدور المهم الذي قامت به العمالة الآسيوية في برامج التنمية الاقتصادية الاجتماعية.ونتيجة لتلك الهجرات والهجرات المعاكسة أسس التجار العرب جمعية لهم عُرفت باسم (الجمعية العربية الهندية). في هذا الباب يشرح مدن مطولا تاريخ تلك العلاقة وما تمخضت عنها من زيارات لمسؤولين ومفكرين ومنفيين خليجيين وعرب إلى الهند واستقبالها لهم، والشخصيات الخليجية التي عاشت هناك من شعراء وأدباء وفنانيين …الخ .
الفصل الرابع وهو الأخير يركز حسن مدن في هذا الفصل على المثقفين في البحرين ودورهم في معترك التغيير، ويعتبر بأن هنالك ثلاثة أجيال من المثقفين، هي:
١-الجيل الإصلاحي ذو النزوع الإسلامي
٢-الجيل القومي ذو النزوع العروبيّ
٣-الجيل الثوري ذو النزوع اليساريّ
الا إن هذا التقسيم كما يذكر مدن لا يخلو من تداخل أو تشابك بين تلك الأجيال الثلاثة، ويشير الكاتب إلى إن أبرز مثقفي الجيل الأول كان ناصر الخيري، فقد كان شجاعاً في مقارعة (ما عدّه معوقاً للتجديد والتحديث، وفي الدعوة إلى التحرر من أسر القيود الموروثة لا في عالم الفكر والثقافة وحدهما، وإنما في السياسة أيضاً). أمًا الجيل الثاني القومي ذو النزوع العروبيّ فقد نشط إبان المد القومي العربيّ مع ثورة عبدالناصر، بخلاف الجيل الثالث ذي الّنزوع الثوري اليساريّ والذي تجاوز سابقه من خلال تأثره بالفكر الماركسي واليساري عامة ومثال على ما ذهب اليه تأسيس جبهة التحرير الوطني في منتصف الخمسينيات. وبكثير من الشرح والتفصيل يؤصل مدن لتلك المراحل من التطور الحاصل للافكار والحركات في البحرين استناداً للتطورات في مختلف المجالات، الاقتصادية والاجتماعية والسياسية سواء في الخليج أو الوطن العربي والعالم.
من الظلم أن نكتب مقالًا نحيط بكل ما جاء في هذا الكتاب الضخم وبما حواه من معلومات، وعلى هذا الآساس أدعو المهتمين من مثقفين وسياسيين وأدباء لقراءته لما فيه من معلومات ثريّة ومهمة وعميقة، وبالخصوص المعلومات التي لم نكن على معرفة بها عن الوضع الثقافي والسياسي إبان الاستعمار.
كتاب موسوعي يجيب على الكثير من الأسئلة من مختلف الجوانب الثقافية على وجه الخصوص، الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في منطقة الخليج العربي. يمكن لهذا الكتاب أن يبقى مرجعاً للمهتمين لما فيه من معلومات موثقة من مراجع وكتب ومجلات توثق للمحطات التي كتب عنها الدكتور حسن مدن في هذا الكتاب الموسوعي والذي أطلق عليه إسماً جميلًا ومعبراً: “حداثة ظهرها إلى الجدار”.