يُعدّ الحزب الشيوعي المصري من أقدم الأحزاب الشيوعية العربية، وتعود نشأته إلى عام 1922، وكان يُعرف حينئذ ب” الحزب الاشتراكي”، ثم أنضم للكومنترن بعد موافقته على شروط من بينها تغيير مسمّاه إلى “الشيوعي”، ولكنه أضطر للعمل السري بدءاً من عام 1924 بعدما أدرك أن السلطة الجديدة لا تتحمل وجوده ولن تمنحه الشرعية، رغم إقرارها التعددية الحزبية، وهكذا أضحى قياديو الحزب ونشطاؤه عرضة للمطاردة وضيوفاً دائمين على المعتقلات وقاعات المحاكم. على أن ذلك لم يفت في عضد الحزب ولم يحل دون تنامي قوته، حتى برز نفوذه بقوة على مسرح الحياة السياسية خلال الأربعينيات بالرغم من توزعه في هذه الفترة على عدة جماعات وحلقات ماركسية.
ومع ذلك لم يتعرض الشيوعيون في عملهم السري خلال الحقبة الملكية لمخاطر التصفية الإجتثاثية كالتي تعرضوا لها خلال العقد الأول من الحقبة الجمهورية بعد ثورة يوليو 1952 بقيادة جمال عبد الناصر الذي منع التعددية الحزبية وكان يتوجس من النشاط الشيوعي السري، حتى بلغت ذروة حنقه من نشاطهم عشية توحد الحزب أواخر الخمسينيات وما أبدوه حينها من تحفظ على الوحدة الأندماجية مع سوريا 1958، فجرّد لهم حملة أعتقالات واسعة في صفوفهم ليلة رأس السنة 1959، وسقط لهم عدد من الشهداء تحت التعذيب، من أبرزهم شهدي عطية والدكتور فريد حداد ورشدي خليل ومحمد عثمان ولويس اسحاق، ولولا ضغوط الرأي العام العالمي ويوغسلافيا والاتحاد السوفييتي التي تكللت بالافراج عنهم عام 1964، لربما ظلوا “منسيين” ليس سهواً إلى أطول فترة غير معلومة الأمد.
وحتى بعد الإفراج عنهم لم يكن ليسمح لهم أن يستأنفوا نشاطهم السري، وكان الخيار الوحيد المطروح أمامهم ممارسة نشاطهم السياسي في إطار الحزب الوحيد الحاكم “الأتحاد الاشتراكي” ووُجهوا بانذار صارم لحل حزبهم الشيوعي، وبدون ذلك كان واضحاً لهم أنهم سيتعرضون لحملة أعتقالات جديدة قد تسفر هذه المرة عن تصفية ما تبقى لهم من كوادر قيادية.
وهكذا ففي شهر مارس من عام 1965 أجتمعت اللجنة المركزية للحزب وأصدرت بياناً بحله، ومما جاء فيه: “ولقد توجد ولسوف توجد بالفعل لأمد طويل نسبياً، علاقات فكرية عميقة بين الشيوعيين وبين القوى الاشتراكية الأخرى، ولقد توجد بالفعل أيضاً -ولسوف توجد- خلافات حول المناهج اللازمة لحل المشكلات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، لكن تبقى بعد هذا حقيقة جوهرية، هي أن ما يوحد كل القوى الاشتراكية هو أكبر وأهم -بما لايقاس-مما يفرق بينهم. وعلى سبيل المثال فإن النقاط الأساسية – في مجموعها – للبرنامج السياسي والاقتصادي والاجتماعي الذي تضمنه ميثاق العمل الوطني تصلح أساساً لوحدة عمل بين كل القوى الاشتراكية خاصة إذا نُظر إلى هذه النقاط من زاوية نضالية وعلى أساس أن الحلقة الرئيسية فيها تطوير الديمقراطية السياسية لمصلحة الشعب العامل … ومن هنا يأتي قرار اللجنة المركزية للحزب الشيوعي المصري بانهاء الشكل التنظيمي المستقل للحزب، كخطوة لا بد منها، في ظروف بلادنا الخاصة، … ” .
ومع أنه جرت انتقادات كثيرة – أغلبها غير معلنة – في بعض أوساط اليسار المصري واليسار العربي للخطوة التي أقدم عليها الحزب الشيوعي المصري بحل نفسه، إلا أننا نرى اليوم أن قرار الحل كان صائباً تماماً ولا بديل عنه، فالاجتثات الجذري للحزب وقيادته قد يحرم الطبقة العاملة من وجود فكر وتنظيم ماركسيين في البلاد لفترة طويلة تتعقد معها الظروف بما يحول دون إعادة بنائه في فترة قصيرة، لاسيما في ظل الشعبية الكاسحة التي كان يتمتع عبد الناصر داخل مصر والعالم العربي.
وعلاوة على ذلك فإن إنضمام كوادر قيادية منهم للإتحاد الاشتراكي- مع تمسكهم بفكرهم الماركسي – لم يكن عديم الجدوى كما أثبتت التجربة بعدئذ، وخصوصاً أن عدداً من قيادييهم ضمّهم عبد الناصر في “التنظيم الطليعي” السري داخل الاتحاد الاشتراكي، بالإضافة إلى وجودهم في معهد الدراسات الاشتراكية ومنظمة الشباب الاشتراكي، أضف على ذلك فقد تولي بعضهم مواقع صحفية مهمة، ولعب كتّابهم دوراً توعوياً ماركسياً ونضالياً في الصحافة العلنية، وبالتالي فقد تمكنوا من داخل كل تلك المنظمات الناصرية من استقطاب أو أستمالة كوادر شبابية من اليسار الناصري بعد هزيمة يونيو 1967، إذ تبنى العديد من الشباب الناصري الماركسية بعد رحيل عبد الناصر وإحباطهم من انكسار مشروعه القومي.
كما تمكن الحزب بدوره من إعادة بناء تنظيمه في عام 1975، ولعب الشيوعيون المصريون دوراً مهماً مع القوى الوطنية في التصدي لسياسات الرئيس المصري الأسبق أنور السادات للانفتاح الاقتصادي مع الغرب وتصفية القطاع العام، كذلك تصدوا بكل قوة لسياساته نحو التقارب المذل مع أمريكا والانحناء لضغوطها، ثم مع إسرائيل التي توّجها بتدشين أول معاهدة صلح وسلام عربية ثنائية منفردة معها عام 1979، كما لعب الشيوعيون المصريون دوراً مهما في ثورة يناير 2011 .
وأخيراً فقد كان لليسار والشيوعيين المصريين إسهامات جليلة في منتهى الأهمية في تطوير الحياة الثقافية في مصر بمختلف مناحيها الفنية والأدبية، وبرزت لهم رموز كبيرة مازالت تعتز بها مصر في ميادين الصحافة والسينما والمسرح والشعر والرواية وخلاف ذلك.