مارثا … روح الطفلة وسحر اليد

0
44

“الموسيقى، هي تلك القوة التي تستطيع ايقاف الوقت”، استوقفتني تلك العبارة التي لوحت بها عازفة البيانو الشهيرة مارثا آرغريتش وهي تحاور الصحافي أوليفييه بيلامي، ربما لأنه مرّ عليّ وقت من الزمن وأنا أخبر جميع من حولي بأني بت أكره الوقت لعدم قدرتي على مجاراته…. لا أعرف، ولكن للموسيقى قوة تفوق الوقت، وللمرأة طاقة تفوق المتوقع. لطالما أبهرتني، وأنا امرأة،  قدرة النساء على إنجاز الكثير من المهام في يوم واحد، فلكم قدرة التخيّل: جمع المرأة والموسيقى لا ينتج إلا السحر من منظوري الخاص. مارثا آرغريتش مثال للمرأة  الموهوبة الشغوفة التي كرست جل حياتها لما تجيد فعله: صنع الموسيقى.

من يعرف مارثا آرغريتش، يعرف بأنها إحدى عازفات البيانو الأكثر كرهاً للأضواء، و الحوارات الصحافية. علاقتها مع البيانو حميمية مثل المرأة التي وجدت توأم روحها، فمدت يدها لتتحد روحها بروحه. في هذه الصورة الجمالية، تشكل  يد مارثا امتداداً لآلة البيانو.  حاولت وما زالت تحاول قدر المستطاع الحفاظ على هذه الخاصية التي تجمعها والآلة وإن حاول إزعاجها من حولها. صحافي واحد فقط استطاع أن يكون ضيفاً شاهداً على هذه الحميمية وهو بيلامي، فأطلق كتاب السيرة “مارثا آرغريتش، الطفلة وسحر الموهبة”،  لكن من هي فعلاً مارثا آرغريتش ولماذا ينبغي التفكير بها عندما نحتفل بيوم المرأة ؟

تجلت معالم الموهبة لدى مارثا عند سن الثانية عندما اكتشفت العائلة قدرتها على النسخ سماعياً لمقطوعات شوبان التي كان أخاها يتدرب عليها، والتي بالمناسبة لم تكن مقطوعات سهلة. كانت أذن مارثا قادرة على التقاط الموسيقى وإعادة عزف أشهر المقاطع سماعياً بشكل لا يستطيع إلا أن يأسر السامع. كان الجميع يندهش عند سماعها ويقول: من هي تلك الفتاة الصغيرة التي لا تعرف بعد شيئاً عن الحياة، ولكنها تجيد عزف شوبان وباخ وشومان ؟

في الحقيقة،  لم تكن لموهبة مارثا أن تخرج الى العلن لولا أمها التي أيقنت بأنه إن لم تتم تنمية هذه الموهبة، قد تضيع من أيدي طفلة لا تعي بعد أهمية ما تملك. لم تكن أم مارثا عازفة أو ملمة بالموسيقى ، فهي ترعرت في كنف أسرة فقيرة من بيلاروسيا، ولكنها كانت تملك شخصية قوية ومنظمة، تجعل أولادها ينصاعون لأوامرها. كانت تعرف بأن العلم في الصغر مثل النقش في الحجر، و أن نقش الحس الموسيقي لمارثا سيؤتي ثماره حتماً، فلم تتردد في جعل ابنتها تتعلم على أيدي كبار العازفين.

أستاذ الكمان الشهير ليوبولد أوير يقول بأنه عندما يقبل عليه طفل لتعلم آلة الكمان كان يسأله: هل أتيت راغباً أم مجبوراً؟ ولا يقبل إلا الأطفال الذين أتوا بإلحاح وبمتابعة والدتهم. كان يعلل موقفه قائلاً : “إرادة الطفل تتغير باستمرار، ولكن إرادة الأم ثابتة”.  يميل الأطفال الى التميز على الآلة عندما يكون هناك متابعة من قبل الوالدين ولكنها ليست قاعدة. كان فينتشنزو سكاراموزا الإيطالي أول معلم بيانو لمارثا، وأول من حاول تنمية حسها الموسيقي، تلاه فريدريك غولدا الذي كان له الأثر العميق في حياة مارثا المهنية، ومن ثم ارتورو بينيديتى، ولكن أكبر معلم لمارثا كان أمها. كانت حريصة جداً على أن تتمرن مارثا لساعات طوال، ولم تكن تتركها في حفلاتها. لشدة حرصها، كانت تشعر بأنها ان تركت مارثا يوماً، قد تتناسى تلك الأخيرة التمرن على البيانو.

 كبرت مارثا و أضحت من كبار العازفين ولكن حسها الطفولي ظل ملازماً لها. لم تختار أن تكون أماً و لكنها رحبت بأطفالها، تركت الآلة وعادت لها، وكانت تلعب كل يوم لعبة الموازنة بين أطفالها والبيانو، فيفوز البيانو تارة وبناتها تارة أخرى. يشير الصحافي أوليفييه بيلامي إلى أن مارثا لم تولد لتكون أماً لأنها لم تختار ذلك ، ولم تولد لتكون عازفة بيانو شهيرة لأنها لم تختار ذلك أيضاً، ولكنها ولدت حتما لتظل طفلة، طفلة تريد اكتشاف الحياة باستمرار وتعلم المزيد كل يوم.  كانت تسأل أمها وهي طفلة ماذا تتمنين، فترد عليها: أتمنى أن تكون يدي سحرية لأشفي نفسي من أعلالي مثلما تمحي يداك السحرية هموم الناس عندما توضع على آلة البيانو.