عبر الأسابيع الثلاثة الماضية أبرزنا في مقالات عدة، ما تموج به الساحة الدولية، بما فيها الوطن العربي، من نقاشات بشأن النظام الاقتصادي الرأسمالي العولمي المتأزم، وضرورة الانتقال إلى نظام اقتصادي آخر.
لكن ذلك النظام الاقتصادي الذي قاد العالم إلى أزمات مالية، وإلى بطالة مذلّة لمئات الملايين من البشر، وإلى إفقار متنام لمليارات البشر، وإلى تدمير لدولة الرعاية الاجتماعية، وإضعاف متعمد ممنهج لقوى المجتمعات المدنية السياسية والنقابية والحقوقية، وراءه فكر سياسي برّر قيام ذلك النظام الاقتصادي فكرياً، وخطط بطرق شيطانية لإقناع مليارات البشر بتفوق ذلك النظام على ما سبقه من أنظمة رأسمالية واشتراكية، ورفع رايات البشائر الكاذبة بقرب انتقال الإنسانية إلى حالات الوفرة في النعم المادية والسلام في العلاقات الاجتماعية والطبقية، ولم يترك وعوداً مشرقة إلا وكذب بشأن قرب تحققها.
وإذا لم يحلل ذلك الفكر السياسي البائس، وينقد بقوة وعمق، ويتخلى العالم كله، بما فيه الوطن العربي، عن تبنّيه بجنون وطفولة رعناء، فان كل جهود تعديل مسار النظام الاقتصادي الحالي ستذهب هباء.
دعنا نذكّر القارئ بأن الفكر السياسي الذي نعنيه هو المسمى، بشطارة التلاعب بالألفاظ ، الفكر النيوليبرالي. وقصة تكوّنه ومسار سيرورته عبر الستين سنة من عمره يجب أن يعرفها ويعيها بعمق، على الأخص، شباب المستقبل الذين يراد لهم أن يظلوا تائهين في عوالم الثقافة العولمية المسطحة البليدة التي تركزت في ملاعب كرة القدم، ومسارح الصخب الموسيقي والغنائي الغريزي.
ذاك الفكر بدأ أساساً بوضع ملامحه العامة من خلال تكوين جمعية جبل بليرين عام 1947 من قبل مؤسسها فريدرك فون هايك، وبحضور مفكرين اقتصاديين إنتهازيين من أمثال العرّاب ملتون فريدمان. آنذاك بشرت الجمعية بأن فلسفتها السياسية الجديدة ستنتشر خلال عشر سنوات لتعمّ العالم كله. وبالفعل، ما إن سمعت طبقة الأغنياء في العالم الغربي بالطرح الجديد حتى تبنته بكل أصناف الدعم.
بدأت المساعدات المالية السخية تنهمر على كليات الاقتصاد الجامعية الأمريكية والأوروبية التي تدرس الفلسفة الاقتصادية الرأسمالية النيوليبرالية الجديدة، لتخريج الألوف من الاقتصاديين المؤمنين بتلك الفلسفة والمرشحين لتولي أعلى المناصب في الحكومات والمؤسسات الدولية، مثل البنك الدولي.
وانهمرت المساعدات المالية على عشرات مراكز البحوث الأمريكية والأوروبية من أجل وضع تلك الفلسفة في قوالب عملية تنفيذية، وبصور مقنعة تستسيغها الجماهير، وتؤدي في الوقت نفسه إلى وجود مادة جاهزة لوسائل الإعلام التابعة أصلاً لجهات ولأفراد من مالكي المليارات. وبدأت كبريات منصات الإعلام تهمّش وجود كل من يرفض الفلسفة الجديدة، وتسبغ كل صفات المديح والتعظيم على من يتبناها من كتاب وأساتذة الاقتصاد.
وفي بضع سنوات، وجدت آلاف الكتب والصحف ومحطات التلفزيون والإذاعة التي تنادي بتقليص وجود النقابات إلى الحد الأدنى، وبتخصيص كل الخدمات الصحية والتربوية العامة وغيرها مما كان مُلكاً عاماً، وبزيادة الضرائب على المواطنين وتخفيضها على الأغنياء. وفجأة، وبسرعة البرق، رأينا العالم يتغير ويتجه إلى كل ما هو ظالم، وغير أخلاقي، وغير مؤمن بالقيم، وإلى تدمير كل ما اقتنعت به البشرية عبر مئات القرون السابقة.
فجأة حل الفساد، وتشوهت الممارسات الديمقراطية، وانتشر الجنون اليميني المتطرف، وعم الظلام محل الأنوار، وتراجع كل فكر أمام الهجمة الفكرية الجديدة، وبدأت مؤسسات العائلة والأحزاب والنقابات والجمعيات الأهلية والحقوقية تصبح تحت رحمة الاستخبارات. أما نحن العرب، من المقلدين دوماً، التابعين طوعاً، المنبهرين ببلادة، فإننا دخلنا كالعادة في تلك الحلقة الجهنمية من دون تمحيص، أو تبصر.
إذاً، لا بد من اجتثاث ذلك الفكر السياسي النيوليبرالي من عقول الناس ومن مجتمعاتهم، كشرط لنجاح أي انتقال من نظام اقتصادي ظالم إلى اقتصاد أخلاقي تشاركي عادل. المعركة كبيرة وطويلة، وهي تتحدى شباب وشابات المستقبل في الوطن العربي، كما في العالم.