ربما غافل الطفل المغربي ريان والديه وذهب مدفوعاً بحس الفضول الطفولي البريْ لاستكشاف خفايا بئر يراه كل يوم ويثير مخيلته ويتوق لمعرفة أسراره، أو ربما أُسقط عمداً بفعل فاعل في قريته الفقيرة “اغران” باقليم “شفشاون”، لكن أن يتحوّل ريّان إلى قصة ذات زخم إعلامي كبير، كالذي شهدناه طوال الخمسة أيام التي مكثها في البئر، وأن يتسمر المشاهدون أمام شاشات البث الحي والمباشر والمتواصل بانتظار معجزة تنقذ الطفل الصغير من الموت المحقق فهو ما سأتناوله في هذا المقال.
واقعة ريّان الحقيقية والمأساوية بدت للجماهير كبرنامج من تلفزيون الواقع ذات النهايات السعيدة والتي يتابعها الجمهور ويتفاعلون معها والتي تنطوي على الجوائز، والإعلانات التلفزيونية والأرباح وتحقيق الشهرة لأبطالها، ويعرض تلفزيون الواقع حكايات من حياة اشخاص معينين ويرصد ردود أفعالهم التي تجتهد كي تكون طبيعية ومطابقة للواقع، وإنطلاقا من هذه الفكرة جاء الفيلم الامريكي الشهير والممتع “ترومان شو”، وترومان في الفيلم الذي يعد واحداً من أهم مائة فيلم في السينما العامية شأن ريّان المغربي، الفرق أن الأول فيلم خيال هوليودي، والثاني فيلم واقعي بامتياز. الأول ترفيهي والثاني مأساوي لكن كلاهما ينطوي على الاثارة وعلى الأمل وتغذية الخيال.
ترومان شاب يعمل في شركة تأمين، يرى أن مجريات حياته تسير في دائرة مفرغة ومكررة كل يوم، حين يفطن للفخ المنصوب له ويحاول الهرب بحثاً عن حريته يصطدم بالحواجز والجدران والعراقيل، يتبين له لاحقاً أنه انسان مسجون تماما ومقيّد الإرداة ومحاصر بالكاميرات والأضواء وبطلً لبرنامج ترفيهي يبث على مدار الساعة، حتى الزوجة والبيت والعمل والاصدقاء تم صنعها له كي تتوافق مع البرنامج الذي يتابعه الملايي ، وكلها خاضعة لإرداة المخرج الذي سيٌر حياة صانعه كي تتوافق مع هوى ومزاج الجماهير، كلاهما ترومان وريّان لم يشاهدا العرض الذي أُعدّ لهما.
فيلم ريّان المغربي الحقيقي وليس الخيالي حقق أعلى نسبة مشاهدة واعلانات وتصدر نشرات الأخبار والواتس اب والترند على مواقع التواصل الاجتماعي، ولم يغب عن الواقعة ذلك الجزء المتصل بالخيال العلمي وإمكانية حدوث المعجزات، نسيت الجماهير في هوج التغطية المكثفة للحدث عقلها ومداركها وحسها العلمي وانساقت وراء الوهم، فصدقت أن طفلاً ذا خمسة أعوام يسقط من علو 32 مترا على أرض صخرية ومعدومة التهوية والاكسجين وينجو ؟
المتطوعون والمسعفون المحترفون الشباب الذين حاولوا مساعدة الطفل في النفق الموازي قالوا إن الاختناق ادركهم قبل بلوغ منتصف الطريق، وثمة من ادعى أن الطفل أكل وشرب وتناول القشطة، وعبر هذه الاخبار اللطيفة استقطب الحدث المشاهدين للفضائيات الإخبارية الفارغة المصابة بداء “الفضاوة” ونقص المادة الإعلامية الحقيقية والجادة والهادفة.
وكما أشرت أعلاه فمن المؤكد أن الطفل قضى نحبه منذ الساعات الأولى لسقوطه، لكن الاعلام يريد التطويل والتمطيط واستبقاء الجماهير واقناعها بإمكانية حدوث المعجزة كي لا تبارح مقاعدها، فلا شيئ في هذا العالم المنكوب والمنذور للحروب والمآسبي باعث على الفرح أو الامل، وملايين الأطفال في منطقتنا يموتون جوعاً وبرداً وعطشاً على خلفية النزاعات والفقر والحروب لكن يراد جر الرأي العام جراً كي ينشغل ويتشاغل ويتلهى بخبر صغير عن مراهقة تختفي من بيت أبيها أو طفل ضائع أو محشور في حفرة، فيبرز التعاطف الشعبي الجماهيري ويتهيأ الناس للنهايات السعيدة التي تحقق بعض الإنشغال الذهني ولو لفترة وجيزة في عالم إعلامي مكبل ومخنوق لا تسمح قوانينه بالاشتغال في السياسة والشأن العام والإعلام الحر، فيعوض نقص الإمداد المعرفي والتحليلي والحرياتي في مجالات أخرى وقصص أخرى هامشية كي تستمر التغطية / التعمية الإعلامية ويتواصل العرض.