عاصمةُ القلبِ هناك
بعيدةٌ هناك ….
سنواتٌ مرّت على زيارته الأولى إلى القاهرة.. وطن الأغاني والمعاني والسحر والبخور والعجائب والأسرار، المدينة التي تشبتث بقلبه من كل أطرافه عندما زارها حين كان في سن العشرين تقريبًا. جاء إليها يافعًا .. ربما ساذجًا بسبب طيبة قلبه الأزلية، أقام حينها في الطابق الثامن من عمارة ستراند في باب اللوق في شقة مفروشة تتألف من ثلاث غرف نوم وصالة. كان حينها مغسولًا بالفرح والمرح متأججًا برونق الشباب وعفويته، قبل أن تصله الأدخنة السوداء. عاش تجربةً غنية لم تغادره ويبدو أنها اعترشت روحه إلى الأزل رغم مرور تلك السنوات الطويلة. مكث في تلك الشقة شهرًا كاملًا، كان ذلك في شهر أغسطس، قبل أربعين عامًا.
شيءٌ ما يناديه في تلك الشقة، شيءٌ خفي، يتحوّل أحيانًا إلى إحساسٍ طاغٍ يغويه بالعودة إلى مرابع الشباب الأولى، لكنه لم يكن متأكدًا أن تلك العمارة لا تزال موجودة. قرر أخيرًا أن يشدّ رحاله، ملبّيًا نداء المجهول داخله.
وصل القاهرة ظهرًا وسكن في فندق سميراميس وقرر أن يبدأ رحلة البحث عن عمارة الذاكرة . في اليوم التالي استيقظ مبكرًا واستقل سيارة أجرة لكن صاحب السيارة لم يكن يعرف تلك العمارة فطلب منه أن يأخذه إلى باب اللوق. حاول أن يتذكّر موقعها غير أن ذاكرته لم تسعفه. سأل الكثيرين لكنهم لم يعرفوها حتى دبَّ اليأس في نفسه. وجد رجلًا كبيرًا في السن يعمل بوّابًا لإحدى العمارات، سأله عنها فأطرق صامتًا ثم قال: “نعم ..نعم إنها هناك لكنهم غيّروا اسمها”. وقف أمام العمارة صامتًا، ربما مذهولًا فهي لم تتغير عبر تلك السنوات الطويلة وإن تقادمت قليلًا، نفس الواجهة، نفس المدخل، نفس التفاصيل. سأل بوّاب تلك العمارة إن كانت هناك شقق شاغرة في الطابق الثامن بالذات لأنه لم يكن يتذكّر رقم الشقة رغم معرفته بمكانها. اصطحبه إلى هناك فوجد الشقة إلى يمين المصاعد وشعر بالسعادة بأنها شاغرة، أخبره البوّاب أنها لا تُؤجّر إلّا مع الخادمة فهي تعمل هناك منذ مدة طويلة. شعر بالذهول مرةً أخرى عندما فتحت الخادمة الباب كانت نفسها قبل أربعين سنة.
– أم كرم؟
– نعم أنا أم كرم.
– لم تتغيري أبدًا بعد كل هذه الأعوام.
– أنا ابنتها التي كانت تعمل هنا وابني اسمه كرم أيضًا، أنا اشبهها تمامًا، والدتي توفيت منذ عدة سنوات.
– ومن أين تعرف والدتي؟
– كنتُ هنا منذ مدة طويلة.
– ما اسمك ومن أي بلد؟
– أنا من البحرين واسمي حمود الخالد.
سكتت برهةً عن الكلام وهي تتأمله بعمق، وابتسامة خفيّة وربّما ماكرة على وجهها، وقفت واجمة، وكأنّها فقدت النطق.
– أنتَ الذي كنت تحب شيرين؟
– كيف عرفتِ؟
– ياه …أكاد لا أصدق..والدتي حدثتني عنك بالتفصيل وأرتني صورتك معها، وعن حكاية حبّك.
– ماذا حدث لشيرين؟
– ظلت تتواصل مع والدتي لسنوات طويلة على أمل عودتك، بعدها فقدت الاتصال بك، يبدو أنها حكاية حب نادرة هذه الأيام.
– هل تعرفين مكانها؟
– لم أرها منذ فترة طويلة وبصراحة بيننا خلاف عائلي، لا داعي أن أصدع رأسك بحكاية قد لا يكون لها معنى على الأقل في الوقت الحاضر.
أخذ حمود يتجوّل في الشقة، وشعر بإحساس في غاية الغرابة. نفس الشقة ..نفس اللوحات ..نفس الروائح ..المنظر من الشرفة لم يتغير .. نفس البيوت القديمة والمساجد والمنارات…أجل ..أجل الزمن توقّف هنا فعلًا، هذه الشقة خارج الزمن فقرر دون تفكير أن يستأجرها وحده هذه المرة فقبل سنوات كانوا ثلاثة تشاركوا فيها. اختار الغرفة القديمة التي كانت غرفة نومه من قبل. استرخى على السرير، سمع أغنية من بعيد، وحينما أصاخ السمع جيدًا عرف أنها أغنيته المفضلة في ذاك الزمن “زي الهوى” لعبدالحليم حافظ صادرة من أحد بيوت الجيران. كان مستغربًا جدًا لأنه كان في ذاك الزمن يستخدم مُسجّلًا ولا يتوقف عن سماع نفس الأغنية. تفاجأ أكثر من أم كرم فهي تتكلم وتتصرف مثل أمها التي كانت تحنو عليه مثل ابنها، أما أم كرم الصغيرة هذه فهي تصغره بسنوات لكنها هي هي أمها دون أي فرق. الأغرب في الموضوع أن ابنها هو نفس كرم الذي التقاه هنا منذ أربعين عامًا، نفس الوجه، نفس الشقاوة، نفس التفاصيل. ماذا يحدث هنا ؟ّ!
استغرب أن أم كرم الصغيرة تعرف عنه أشياء كثيرة، وتهتم به بشكل غير عادي. كان فعلًا أمرًا غريبًا، فما هي أهميته أن تحكي لابنتها عنه كل هذه التفاصيل الدقيقة. من كان هو، مجرد صبي طائش، حالم، لا يدري ماذا ينتظره فيما تبقى من الطريق. حاول أن يستدرجها ليعرف سر كل هذا الاهتمام به. حتى جاء يوم أَلحّ عليها بالسؤال فبدأت بالحديث:
– والدتي كانت تحبك كثيرًا وتحترمك، حتى صورتك معها كانت تعلقها على مرآة طاولة الزينة لسنوات.
– هل هذا كل شيء؟
– لا تضغط عليّ فما كل ما يُعرف يقال. هناك كلام يمزق الفؤاد.
– قولي ما عندك …ولا تهتمي، أنا كبرت على المفاجآت.
– زوجي اسمه عدلي …وهو ……!!
– هو من؟
– هو ابن شيرين ..حبك القديم؟
– وبعدين؟
– شيرين لم تتزوج.
– وكيف أنجبت عدلي اذن؟
– منك أنت.
– أنا …..كيف؟
– حملت منك، وانقطع الاتصال بينكما، بحثت عنك بكل الطرق وحينما علمت أنك تزوجت، قررت أن تكتم السر حفاظا عليك وعلى حبها لك، واستطاعت بطرق ملتوية أن تسجله باسمك دون علمك.
– هذا مستحيل ….مستحيل. أين هي الآن؟
– لا أدري فقد انقطع الاتصال بيننا منذ زمن.
– وأين عدلي زوجك؟
– إنه في السجن محكوم مؤبد، متهم بتهريب المخدرات، هو يؤكد أنه بريء لكن كل الأدلة ضده.
كانت صدمة لم يتوقعها أو حتى فكر فيها يومًا، خرج من الشقة هائمًا على وجهه. هل هذا هو النداء الخفي الذي اعتمل في صدره طوال الفترة الماضية.
جلس في مقهى على النيل يحتسي القهوة التركية فنجانًا وراء فنجان سارحًا بفكره وهو يتأمل الهدوء الماكر للنهر. هل يمكن أن تمتد الخطايا القديمة مثل خنجرٍ يغتال أفراح المستقبل. كيف يكون له ولد ضالع في التهريب. شيرين كانت محطة لم يكن هو الوحيد فيها، فكيف تدّعي أنها حملت منه ولماذا هو. الموضوع برمته لا يهمه، يمكنه أن يغادر وكأنه لم يسمع شيئًا لكن ضميره سوف لن يرتاح حتى يعرف الحقيقة.
قرر أن يقابل عدلي لأنه يعرف جيدًا أن قلبه دليله وبه مفتاح وهل هناك شبه بينهما أو ربما الدماء التي تكون عادةً مرآة على الوجوه. فاتح أم كرم فلم تمانع واتفقا على أن تقدمه كصديق قديم للعائلة خاصةً وأنه يتقن تحدث اللهجة المصرية بطلاقة. وجاء موعد اللقاء فإذا به أمام رجل طويل تبدو عليه الوسامة، والتهذيب والخجل فشعر أنه لا يمكن أن يكون هذا الشاب مهرّب مخدرات وتيقّن أنه ضحية اللاعدالة. دقّق النظر فيه ليرى أي شبه بينهما فلم يجد وإن كانت سحنته بدت خليجية.
في طريق العودة من الزيارة، قفزت إلى ذهنه فكرة وهي استخدام فحص الحمض النووي للتأكد من نسب عدلي الذي أجراه لنفسه مؤخرًا في الولايات المتحدة ليتعرّف على أصوله. وجدها الوسيلة الوحيدة والحاسمة التي تنقذه من هذا الوسواس والقلق، ولكن كيف يصل إليه ليأخذ مسحة من لعابه.
في اليوم التالي زار مكتب أحد المحامين المعروفين وروى له حكايته الغريبة فوعده المحامي بالتواصل مع بعض ضباط الشرطة لمساعدته على الوصول إلى الولد المزعوم وأخذ مسحة من الحمض النووي منه مقابل مبلغ لا يقل عن خمسة آلاف جنيه. لم يُضع حمود الوقت وبادر إلى طلب فحص الحمض النووي عبر الإنترنت بشكل عاجل من الشركة التي لديه ملف معها بغرض مقارنة صلة الدم، إن وجدت. خلال خمسة أيام استلم حزمة الفحص من الشركة الأمريكية وسلّمها إلى المحامي بعد أن شرح له كيفية استخدامها.
وهو في انتظار نتيجة الفحص الذي يستغرق عادة ما بين أسبوعين إلى ثلاثة أسابيع. شعر بأحاسيس غريبة وبنوعٍ من اللاجدوى. ماذا سيتغير في الموضوع إذا ثبت أنه ابنه أم لا. الموضوع برمّته متعب ومثير للتقزز، إنه الماضي ينشب أظافره في الحاضر أو ربما في المستقبل. يكفيه ما به من وجع. فتح جهاز هاتفه وأرسل رسالة إلى الشركة التي تقوم بإجراء فحص الحمض النووي وطلب منهم إلغاء الفحص على الفور، والاحتفاظ بما دفعه. قرر أن يشطب كل ما رأى وسمع من ذاكرته ومن تاريخه الماضي والحاضر.
وهو في الطائرة عائد إلى بلده أسند وجهه على النافذة، شعر برغبة بالبكاء لكنه لم يبكِ، تاركًا المطر في الخارج يبكي عنه ….فكل ما حدث ويحدث ليس سوى عبث الأشياء!!