متصلون ومنفصلون

1
306

أول مسج يصلني في الصباح الباكر على هاتفي الجوّال من عاملة المنزل في بيتي تسألني “ماذا نطبخ اليوم؟”، فلم تعد تطرق باب غرفتي او تنتظر حضوري على مائدة الإفطار لتطرح علي السؤال، وكنت ارى طلتها وأسمع صوتها وأعرف مزاجها. هذه المرأة الاسيوية التي حضرت إلى بيتي ذات يوم قبل خمس سنوات نست كل التعليمات والتدريب و”ألاتيكيت” وكل الخبرة المنزلية التي تعلمتها واتقنتها في السابق، وسارت هي الأخرى في ركاب عالم  التواصل الرقمي، ولم تعد ترى غضاضة في مراسلة مخدومتها بالواتس اب بلا تحفظ أو اكتراث.

ولقد وجد أحد مدراء الشركات أنه بدأ يفقد الود والتواصل الإنساني الحميمي والشخصي بينه وبين مرؤسيه نتيجة اجتياح الواقع الرقمي الافتراضي مجريات عمل الشركة وتكريسها في أعقاب جائحة كورونا والعمل عن بعد، فقرر تخصيص يوم في الأسبوع للتعرف على فريقه عن قرب، وجهاً لوجه بعد أن طال البعاد بينه وبينهم فاعترته وحدة المنصب الرفيع ووحدة العزلة الناجمة عن سيادة عالم لا يرى فيه بشراً ولا يسمع فيه صوتاً، اعترف قائلاً: “زملائي نسيت حتى أشكالهم”.

في عيد الأم الفائت تلقت احدى الامهات رسالة من ابنها مهنئة وممتنة ومعتذرة على التأخير، قالت له الأم: تعرف أنني اكره الرسائل وأحب المكالمات وأتوق إلى سماع صوتك، فاجابها برسالة مشفوعة بالرموز الجاهزة للاعتذار والورود والنوم والهدوء على هواتفنا الجوالة “معذرة يا أمي أنا اكتب لك من غرفتي ولا أود إيقاظ زوجتي”.

ذات مرة واثناء انتظاري لدوري في إحدى شركات الاتصالات، سمعت هذا الحوار بين الزبون والموظف.

الزبون: أود أن انتقل إلى باقة جديدة من الخيارات المطروحة حالياً، فالفاتورة الحالية مرهقة مالياً بالنسبة لي

الموظف: “كم هي عدد الساعات التي تقضيها على هاتفك الجوال؟”.

الزبون: طول اليوم تقريباً، لا أغادره أبداً، إنه معي في الصحو والمنام وحتى اثناء القيادة وتناول الطعام وغيرها من الأنشطة الحياتية، تستطيع أن تصنفني في عداد المدمنين، علق مختتماً كلامه.

 الموظف: إن أي مبلغ  تدفعه لنا أيها الزبون العزيز يعدّ قليلا قياسا بالخدمة المتواصلة التي تحصل عليها منا، نحن منحناك الحياة كلها تقريباً.

 ذكّرني ذلك بمقطع اغنية شادية الشهيرة: “احنا من غيرك ولا حاجة وناقصنا كام مليون حاجة”.

كم من مشترك نسى هاتفه الجوال في موضع ما واستدرك ذلك في وقت متأخر من الليل وراح يركض لاهثاً من مكان إلى مكان لاستعادته قبل أن يهجع إلى فراشه؟

وكم من صديق زعل لأنك لم ترد على رسالته في الحال وفي نفس اللحظة مفترضاً أنك متسمر على الجهاز 24 ساعة ولا تغادره أبداً، ومتعمدا تجاهله.

والسؤال هو: هل نحن اليوم أكثر قرباً ووصلاً وتواصلاً وتفاعلاً ببعضنا البعض أم أقل؟  ألم نتحول إلى بشر آليين يتحركون وفق إيقاع واحد ومتشابه ومتماثل ولا فرادة فيه؟

ألا تختفي المتعة في الإدمان؟ ألم تتضاءل النشوة المتحققة من ممارسة الهوايات المحببة والشغف المتعدد والمتنوع بالأشياء أمام شغف الجلوس أمام الشاشات الواحدة؟ ألم تختف متعة الجلوس مع ذواتنا؟ ألسنا أكثر وحدة مما كنا قبلا رغم عشرات الأصدقاء والمعارف وغير المعارف الذين يصلون إلينا يوميا بالورود والقلوب والأغاني والتهاني والتبريكات؟

مرضى ومدمنو ومجانين الهواتف سيماهم على وجوههم وأمراضهم وعللهم، عيون ضيقة وجافة ورقاب وأكتاف وظهور مجهدة ومشوهة وملكات ومواهب لغوية مرشحة للنسيان والتلاشي.

الحلو والمر والأشغال والإنشغال والاحتيال والخلاف والاختلاف كله يجري يوميا بهدوء وصمت عبر برامج التواصل الالكتروني الرقمي أو الافتراضي، تواصل لا يرتقى مهما احتدم أو مارس أطرافه العنف اللفظي إلى الإهانات الجسدية أو الضرب، وإذا بلغت أشدّها انسحب أطرافها أو سدّوا عليك أوعلى انفسهم منافذ العبور، ونستر ذواتنا وضيق خلقنا وألمنا وحزننا تحت ستار هذه المسجات الصغيرة المتشابهة التي تقول ولا تقول شيئا .

متصلون ومتباعدون في الآن ذاته.

مشغولون ومشتتون معاً، نلاحق كل شيئ ولا نذكر أي شيء. متفاعلون إلكترونيا ولكن مقطوعون اجتماعياً. وكثيرون اكتفوا بحياة تنكمش وتتضاءل يوماً بعد يوم، حياة تقوم على استقبال “المسجات” وإرسالها فحسب.

جائحة كورونا قالت لنا إن الحياة والأعمال والتجارة تستمر ولو عن بعد ودون الحاجة لأي اجتماع بشري و”الواتس أب”  أثبت لنا أن التحاور والتفاعل ممكن دون الحاجة إلى الكلام .

من كان يتصور أن نبلغ يوماً كهذا؟

1 تعليق

  1. للاسف الموبايل نعمه و نقمه فى ان واحد سلاح ذو حدين ففيه التواصل و الانقطاع فى ان واحد و اصبح الناس اذا لم يرغبوا فى مقابلة او لقاء احد ارسلوا رسالة اعتذار وفيها مليون عذر و عذر حتى يقبل اعتذارهم و من كثر الرسايل على الواتساب اصبحنا نشم رايحة الكذب الفواحه و المجاملات و النفاق المستشري و باسم التطور و التكنولوجيا وجد اللذين لا يحبون اللقاءات منفسا اهم وكان التكنولوجيا هي المنقذ لهم. و عندما تسال احدهم هل ذهبت لتهنئة او تعزيه يرد لانه اكتفى بالرد عن طريق الواتساب.
    اذا كنا نحن الان هكذا ، فماذا عن الاجيال القادمه كيف سيعرفون بعضهم
    ارجو ان تقبلي تعليقى برحابة صدر
    مريم دَاوُدَ

Comments are closed.