لم تثر مرحلة صعود هتلر والحزب النازي إلى السلطة في ألمانيا أية مخاوف عند سلطات البلدان الغربية ٱنذاك، وبالعكس، كما يذكر الباحث الأكاديمي اللبناني طنوس شلهوب، أظهرت مواد الأرشيف أنه وبعد وصول هتلر إلى السلطة وانتهاكه لبنود معاهدة فرساى التي فرضت قيودا على تطوير قدرات ألمانيا العسكرية، فإن البلدان الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية أقامت تعاوناً وثيقاً مع النظام النازي، وكان للتبادل التجاري مع ألمانيا دور أساسي في بناء الٱلة العسكرية الألمانية والتي حولت مدن أوروبا إلى ركام.
وفي تلك الفترة، نشأت في الكثير من بلدان العالم وفي كنف القوى السياسية اليمينية تيارات عنصرية نازية استلهمت من الايديولوجية النازية مشروعها وشعاراتها السياسية. وظهر في أوكرانيا “ستبيان بانديرا” كأحد أبرز ممثلي التيار القومي المتطرف، والذي لجأ إلى العنف لمواجهة الحركة العمالية والشيوعية، وبعد احتلال اوكرانيا من قبل القوات النازية الغازية كان لبانديرا وتياره القومي الدور الأساسي في التعامل مع الاحتلال النازي، وفي تشكيل فرق عسكرية (فرق الموت) قاتلت إلى جانب الألمان وقوات شرطة أنيط بها مهمات خدمة الاحتلال بين السكان وعملت على تجنبد العملاء وقمع المعارضين وإعدام الأنصار (فصائل المقاومة) وترويع السكان وارتكاب المجازر.
مع تفكك الاتحاد السوفياتي وانتعاش التيارات القومية لأسباب داخلية وبدعم من الغرب الذي وجد في إثارة العصبيات القومية أداة ملائمة لتفتيت وحدة المجتمعات الإشتراكية السابقة، بدأت تتشكل في أوكرانيا تيارات عنصرية متطرفة من النازيين الجدد، وكما يحدث عادة، نبش التاريخ واستلهم النازيون الجدد أفكارهم وشعاراتهم وأساليب تنظيمهم وعملهم من الــ ” بانديريين” القدماء.
ومع تعمق الأزمة الاقتصادية تعززت مواقع اليمين المتطرف في المجتمع، وطوّر الــ “بانديريون” أساليب عملهم وانتقلوا من العمل السلمي إلى المسلح وتشكيل الفرق العسكرية وشبه العسكرية، وصاروا القوة الضاربة المرعبة التي أقدمت في العام 2014 على محاصرة المتظاهرين السلميين في أوديسا في مبنى النقابات وقتلهم ورميهم من الشرفات بعد اضرام النار في المبنى، وكانت النتيجة سقوط 48 شخصا من المتظاهرين المحتجين على إجراءات الحكومة الجديدة بعدما أسقط في الميدان (الحراك وفق خريطة الثورات الملونة الممول من جورج سويوس ومن المخابرات الأمريكية) الرئيس يانوكوفيتش المنتخب ديمقراطيا وفق المعيار الغربي.
بعد ذلك تصاعد عنف الــ”بانديريين” والقوميين المتطرفين ضد القوى التقدمية، وبضغط منهم تم تجريم نشاط الحزب الشيوعي الأوكراني، وصار متاحا ملاحقة أي شخص يروج للشيوعية، وكان سبق ذلك شطب اللغة الروسية كإحدى اللغات الرسمية ومنعت من التداول وحذفت من البرامج التعليمية في المدارس والجامعات، (في بلد أكثر من نصف سكانه روس ومن قوميات أخرى، من مجريين وغجر والخ، كانت اللغة الروسية القاسم المشترك بينهم)، وأعيد كتابة التاريخ المتعلق بالحرب الوطنية العظمى، حيث وضع الجيش الأحمر بمساواة الجيش النازي، واعتبرت المرحلة الاشتراكية بأنها احتلال روسي لأوكرانيا، ومع ان الحكومات السوفياتية كانت تضم شخصيات من كل الجمهوريات من دون تمييز، وتعرض الصحفيون والكتاب والمثقفون وأساتذة الجامعات المؤيدون للعلاقات الأخوية مع روسيا لما للشعبين من تاريخ وثقافة مشتركين ومن مصالح مشتركة للملاحقة والاعتداءات والسجن والتهديد، ودمرت كل الرموز التي تحمل معاني النضال المشترك، وحطمت النصب التي تكرم الجيش الأحمر والجندي المجهول، وجرى الاعتداء بالضرب على المحاربين القدامى وعائلاتهم الذين اعتادوا في التاسع من مايو/أيار على الاحتفال بيوم النصر على الفاشية، ومنعوا من ذلك، وتحولت ( معاداة الروسية) إلى أيديولوجية النظام الرسمي.
وفي العام 2019 اتخذت السلطات الأوكرانية قراراً بإعادة الاعتبار للمشاركين في فريق “بانديرا” المتعامل مع النازيين في الحرب الوطنية العظمى ومنحهم الحقوق التي يستفيد منها المحاربون القدامى ضد النازية. هكذا، أقامت هذه السلطة (التي يتباكى عليها بعض”اليسار” الذين يستهولون الحرب وينظرون لروسيا بأنها إمبريالية، يسطحون الأحداث) المساواة بين من قاتل إلى جانب النازية ونكّل بأبناء شعبه مع الذين دافعوا عن وطنهم.
التاريخ يعيد نفسه، والغرب الذي دعم هتلر مراهناً على استخدامه لمواجهة الإتحاد السوفياتي قبيل الحرب العالمية الثانية، هو ذاته، الغرب الذي يتحالف اليوم مع القوميين المتطرفين الأوكرانيين وعلى رأسهم الفرق العسكرية البانديرية لمواجهة روسيا، حتى لو كانت روسيا رأسمالية، لأنهم راهنوا على أن تبقى روسيا أسيرة الخيانة الوطنية الغورباتشوفية واليلتسينية.
في مقابلة صحفية قال الضابط السابق في مشاة البحرية الأمريكية سكوت ريتر: “إن الجيوش الأمريكية والبريطانية والكندية دربت النازيين الجديد في أوكرانيا المنضوين في كتيبة ٱزوف والذين استولوا لاحقا على السلطة في البلاد”. وأكدّ ريتر أن وحدات عسكرية أجنبية من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي زارت أوكرانيا لتشكيل جماعات قومية متطرفة غرب البلاد وبعد ذلك أطاح هؤلاء بالرئيس الشرعي المنتخب للبلاد، وبدأوا في اتباع سياسات العنف والترويع بحق السكان.
وأشار ريتر إلى أن تأثير تلك المجموعات النازية الخبيثة في أوكرانيا أصبح خطيراً لدرجة أنهم هددوا رئيس الدولة السابق بترو بوروشينكو الذي كان مستعداً للاعتراف بالوضع الخاص لدونباس في عام 2015. وذكر ريتر أن مصيراً مماثلاً كان سيلحق بالرئيس الحالي فلاديمير زيلينسكي لو أنه لم يقم بضمّ تلك المجموعات النازية إلى القوات الأوكرانية وبإطلاق يدها في كل مكان.
About the author
كاتب بحريني وعضو التقدمي