التيه
لا أعرف كم من الوقت إستغرق عبد الرّحمن منيف في كتابة خُماسيته “مُدُن المِلح”، ولكن ما أعرفه بأنها أخذت وقتاً طويلاً مني في قراءتها، فكل مجلد منها يحتوي على نحو سبعمائة صفحة، تزيد أو تنقص قليلاً. فمعروف بأن عبد الرّحمن منيف الذي درس الاقتصاد قدّم لنا هذا المنجز الذي لايُضاهى في قيمته الفكرية والأدبية والفنية، في إطار تاريخي وسياسي في ذات الوقت لتصبح هذه الخماسية مرجعاً لمن يود الرجوع إليه لمعرفة أحوال الجزيرة العربية وكيفية تأسيس الدولة والمشاكل التي واجهها الحكام والحروب التي خاضوها مع بعضهم البعض والحياة التي عاشتها القبائل في تلك الحقبة من الزمن والحراك الاجتماعي والسياسي والاقتصادي في تلك الفترة، فوقف الراوي شامخًا كالنخلة في هذا الربع الخالي بالذات، فوجد زاوية مهجورة في صحراء موران، فبدأ تدوين الزمن الصعب وأطلق عليه “مدن الملح”. فقد أعطى لكل جزء من تلك الأجزاء الخمسة إسماً مُختلفا.
فمثلاً (التيه) وهو الجزء الأول من هذه الرواية التاريخية يُبهرك الكاتب في السرد المنمق بإيراد تلك الأحداث التي وقعت في وادي العيون فانفجرت المياه من وسط الصحراء، فكل من يصل إلى هذا الوادي من القوافل يمتلئ نشوة أقرب إلى الرعونة على حد تعبيره، فتلك البقعة التي انوجدت في وسط الصحراء كانت ملاذا ومنقذاً من الموت لتلك القوافل ليرتوي من تلك المياه الرجال والدواب على حد سواء، فوادي العيون شيء خارق وأعجوبة لايصدقها إلا من رأها كما يقول الكاتب. ذاك الوادي لا يقتصر على المياه العذبة بل يتعدى ذلك إلى الهواء العليل وروعة الليل، والنخيل الذي يملؤه، فذلك الوادي قطعة من الأرض لا غنى عنها لوجود الحياة، ومع ذلك فإن الشباب من أهل الوادي يتوقون إلى السفر لأماكن أخرى من أجل الإقامة والرزق. يصف عبد الرحمن منيف الناس في هذا الوادي بأنهم “خليط عجيب من الوداعة والجنون، مسالمين أحياناً وأميل إلى الكسل أحياناً أخرى، ولكونهم جزء من العشيرة الكبيرة يعطيهم قوة وشعوراً بالثقة ولذلك ينظرون إلى الأشياء والمال نظرة فيها الترفع وأحيانا الإستهتار.
باختصار يشرح في هذا الجزء حياة أهل الوادي والتغييرات التي تحصل لهم بدقة العارف صغائر الأمور وبأدق تفاصيل التفاصيل. فما أن أتى الأجانب إلى هذا الوادي حتى تغيرت الحياة، وكما يقول مُنيف “كان الكثيرون داخلهم شعور الكبرياء، وبدأ الشك يخامرهم بعد أن طالت إقامة هؤلاء الأجانب وبدا إنها ستطول أكثر.”(الجماعة عندهم سالفة، والماء حجة) والمقصود الأمريكيون، قال ذلك متعب الهذال في مضافة ابن الراشد والحكومة لا تعرف ماذا يفعل هؤلاء الشياطين. حلّ بالوادي مرض غريب قضى على عدد كبير من البشر والماشية عزاه متعب الهذال إلى وصول الأجانب كبارقة شؤم، ولكن ما دام الأمير قد أرسل هؤلاء فهم أصدقاء إذن، تلك كلمات التهدئة قالها الكبار للصغار حتى لا يقع المحضور، “فأول الغضب جنون وآخره ندم وإن بغيت الفراق فاطلب ما لايطاق” كما يقول إبن الراشد لابن هذال. ولامتصاص غضب أهالي وادي العيون على الأجانب طمأنهم الأمير بهذه الكلمات “ستكونون يا أهل العيون أغنى الناس وأسعدهم، وكأن الله لا يرى غيركم، سوف تعيشون وكأنكم في حلم والخير يا جماعة الخير، إذا عمّ عمّ.”
إذن جاء هؤلاء ليبقوا، وتبددت كلمات الغنى والذهب كما يتبدد الدخان في الهواء. هُنا يشرح عبدالرحمن منيف حال أهل الوادي مع الواقع الجديد بوجود الامريكان وبدء عملهم في التنقيب عن النفط بأسلوب آخاد: “في البيوت الخشبية التي بنيت بإتقان، يكتبون ويرسمون، في جوٍ من الخفاء يغلف حياتهم كلها. “التركتورات وهي تهجم على الأشجار لتمحيها عن بكرة أبيها، الأشجار تميل وتترنح قبل أن تسقط: “تصرخ وتستغيث، تولول، تجن، تنادي نداءً أخيراً موجعاً” كما يقول الراوي في هذا الجزء من الرواية. فانتقال الرجال من وادي العيون إلى أماكن أخرى والترحال الدائم من ذلك الوادي إلى عجرة، الرحبة، روضة المشتى، الحدرة وغيرها الكثير من القرى والبلدات من أجل العمل وبعد أن استقرّ بهم الحال في العمل لدى الشركة التي أسسها الامريكان بدأت الأمور تجري بخلاف ما كانوا يتوقعون، فقد هُدمت البيوت الصغيرة الفقيرة في حران وسويت مع الأرض، كل ذلك بعد أن ظهر المقاولون المحليون والمستفيدون من الأمريكان.
هذه الأوضاع الجديدة في حران التي وجدوا أنفسهم فيها لم تكن مريحة فقد “كان الرجال يغرقون في الصمت وشعور المرارة يخيم عليهم تماماً، خاصة وأن كثيراً من الأسئلة التي يستطيع الانسان الإجابة عنها في أماكن أخرى،لا تجد هنا جواباً” على حد قول الكاتب، كل ذلك بعد أن استقر الرأي على أن تكون حران هي المدينة والميناء والمقر للشركة. هنا يشرح منيف وبكثير من التفصيل حال العمال وما آلوا اليه بعد أن جلبوا للعمل بالخديعة من قبل إبن الراشد المتعهد والمستفيد من هذا الوضع الجديد، أحسوا بأنهم خُدعوا، أحسوا أن حالة من القهر تفتك بهم.
في ظل تلك التطورات نشأت في تلك المدينة (حران) مدينتان: حران العرب وحران الامريكان والعمال هم من قام ببناء هاتين المدينتين، ومع ذلك لم يُسمح للعمال العرب الاقتراب من بعض الأماكن في تلك المدينة، حران الامريكان . وبعد أن استكملت جميع المرافق اللازمة تمّ استقبال الأفواج القادمة بالبواخر العملاقة من أمريكا. بشئ من التشويق يصف لنا عبد الرحمن منيف هؤلاء الرجال والنساء القادمين من أمريكا (كانت النسوة: طريات، لامعات، باسمات أو كالخيول بعد شوط طويل من الركض. كل واحدة مغسولة، قوية مستعدة وكأنها خارجة من حمام ساخن. كانت الأجساد لا تسترها إلا قطع صغيرة من أقمشة ملونة، السيقان شامخة ظاهرة وأقوى من الصخر. الوجوه والأيدي والصدور والبطون، كل شيء، نعم كل شيء كان يشتعل، يرقص، يطير… الخ).
في الجهة المقابلة كان يصف وبدرجة أكثر تشويقاً حال أهل المدينة عند رؤيتهم هؤلاء الغرباء وبتلك الوضعية الخارجة عن مألوف عاداتهم وتقاليدهم والحالة التي أصبحوا عليها بعد تلك الحادثة، حادثة مجئ الفوج إلى حران. ذلك الحدث خلق عند الناس شعوراً ممزوجاً بالدهشة والحيرة والترقب الحذر والخوف من المجهول وأسئلة لا يجدون لها أجوبة عند كل شخصية من تلك الشخصيات الواردة في الرواية. فالعمال الذين جاءوا إلى العمل في هذا المكان يعملون ويُقتلون في وقت واحد في ظل ظروف صعبة تجبرهم على تجرع قسوة الطقس ومعاملة الامريكان القاسية لهم ووجودهم في معسكر لا يوفر لهم أبسط الحقوق الطبيعية ولا يؤمن لهم الراحة اللازمة، وبعدهم عن عوائلهم إضافة للاعمال التي يجب أن تنجز على جناح السرعة كبناء دار الإمارة وبيت الأمير.
كل تلك الأمور ولدت حالة من الاحتقان بين العمال والأمريكان ومن في صفهم لدرجة الاحتكاك المباشر بين الفريقين وبالخصوص إذا ما توفى عامل من العمال أثناء العمل ورفضت الشركة تعويض أهله عن تلك الوفاة. وعلى هذا المنوال، القلق والهم يتزايدان لآن أحدًا لا يعرف ماذا يخبئ الغد، “الأمريكان مالهم صاحب، مثل الذيب والغنم” بحسب تعبير أحد العمال في هذه الرواية. وبفعل تلك التحولات وظهور حران كمدينة عصرية بها الكثير من الأعمال ولضرورة نشوء تلك المدينة صار من اللازم أن يأتي اليها العرب وغيرهم من بلدان أخرى للعمل كأطباء كصبحي المحملجي الذي أسس لنفسه إقطاعية بحكم احتياج الحكم له وكيفية دخوله إلى عالم المال والأعمال وغيره من الذين أتوا للعمل في مهن أخرى ليصبح المال هدفاً ملازماً لأصحاب النفوذ من أمراء وغيرهم ليتشكل حلف اقتصادي جديد مرتبط بالحكم والدولة. في خضم كل تلك الأحداث لم يغفل الراوي عن التحولات في مفاهيم وعقول الناس بعد دخول التكنولوجيا إلى تلك البقعة النائية في شبه الجزيرة العربية كالراديو والسيارة والمنظار وآلآت الحفر الضخمة، وكيف أن الأمير كان يشاهد كل ذلك بالمنظار متعجبًا وعلائم الغبطة والاضطراب معاً بادية عليه كما يقول الكاتب .
ففي أعماق الصحراء “حيث يجد الانسان نفسه في هذا المدى اللامتناهي مع الصمت، ومع الطبيعة في حالتها البدائية البكر،لا تتاح الفرصة فقط من أجل أن يعيد الإنسان تقييم ما جرى ،وإنما تتم عملية شاقة تمارس بهدوء وصمت من أجل أن يتشكل الإنسان على نـحو جديد.”، يقول منيف. تلك المقدرة الفذة لدى الراوي على صنع الحدث وبتلك المهارة لا تجده إلا في روايات نجيب محفوظ، فكلاهما وظفا تخصصهما في السرد الروائي، نجيب محفوظ الذي تخرج في قسم الفلسفة وعبد الرحمن منيف الذي درس الآقتصاد، فقدما رؤية مجتمعية تستند في أغلب رواياتهما إلى ذلك.