بين سعر النفط وسعر الغذاء سياسة اجتماعية اقتصادية

0
293

ما أن التهبت أسعار النفط لتضرب رقم 120 دولارا للبرميل على إثر العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، حتى تناولها المسؤولون والمواطنون على السواء في منطقة الخليج بما يكاد يقارب تناول أحداث العمليات العسكرية ذاتها. وفي حفل عرس حضره أصدقاء كويتيون أعزاء سألت الأستاذ سعود العنزي، رئيس تحرير “الجريدة” الكويتية عن الوضع الاقتصادي في بلاده. جاءت الإجابة في ذات الدائرة : سيكون التراخي سيد الموقف، اعتمادا على بحبوحة ارتفاع أسعار النفط. وفي ذات يوم جميل، عندما ستهبط ثانية سيعود الحديث عن أهمية الإصلاحات الحقيقية.

هذا هو الحال في معظم منطقتنا. لكن في البحرين له نكهته الخاصة. فنحن مأخوذون كثيرا بفكرة التوازن المالي. وقد نقلت وكالة بلومبرج في 20 مارس عن معالي وزير المالية تفاؤله بأن تحقق البحرين هدفها المتمثل في تحقيق التوازن في الميزانية بحلول عام 2024، وربما قبل الموعد المحدد. وأعاد ذلك إلى ارتفاع أسعار النفط، وكذلك عودة النمو الاقتصادي بقوة.

وبدوره فإن المواطن، الذي يعتقد بأن وظيفة الدولة الأساس هي حمايته ورعايته، راح يحلم، أو يتندر حالما، بأن تستغني الحكومة عن ضريبة القيمة المضافة وتعيد دعم أسعار السلع والخدمات الضرورية والجوانب الاجتماعية الأخرى إلى سابق عهدها، وتُوقِف أو تُخفِف مختلف أشكال الرسوم. وله كل الحق في كل هذه التطلعات. فنحن أمام “طفرة مالية” يطرقها كل من زاوية اهتماماته.

الحقيقة أنْ لا أساس مادي لطفرة الأسعار بسبب أحداث أوكرانيا، لأن الإمدادات الروسية إلى أوروبا لم تتوقف حتى لحظة كتابة المقال، بل أن أسعارها تضاعفت عدة مرات قبل هذه الأحداث. يكمن السبب في الذعر الذي أثارته الدعوات الأميركية لمقاطعة النفط والغاز الروسيين، أي مضاربات شراء الذعر ذاته. أما الأساس المادي فنجده في الإقلاع الاقتصادي العالمي، وخصوصا الصيني بعد جائحة كورونا. ورغم أن خط أسعار النفط صعودي الاتجاه منذ العام الماضي، إلا أن انتشار الوباء هذه الأيام في مدينة شينيانغ بمقاطعة لياونينغ الصينية وإغلاقها كليا يكبح أسعار النفط  من جديد. هو هكذا سوق النفط، غير مستقر دائما، وينسحب عدم استقراره على حالة الاقتصاد المعتمد عليه بنسبة كبيرة. ويعكس ذلك بسطوع ما أوردته نشرة “الشال” الكويتية بتاريخ 13 مارس 2022: بلغ معدل سعر برميل النفط الكويتي لأول أحد عشر شهرا من السنة المالية 2021/2022 نحو 76.8 دولار، وللسنة المالية 2020/2021 نحو 43.5 دولار، وللسنة المالية 2011/2012 بلغ 109.9 دولار، وللسنة المالية 2015/2016 نحو 42.7 دولار، ولشهر فبراير 2022 نحو 94.2 دولار. بينما بلغ معدله في شهر يونية 2020 نحو 35.4 دولار، ولعقد من الزمن 2006 – 2015 نحو 81.5 دولار، ولنصف عقد من الزمن 2016 – 2020 نحو 52.9 دولار. وتذكر “الشال” : “أن معدل سعر برميل النفط في الحاضر أدنى من مستوياته التاريخية، بينما معدلات الإنفاق بارتفاع متصل مع زيادة عدد السكان، والقوة الشرائية لإيراداته تتآكل بفعل التضخم”.

الآن، تشهد البحرين قفزة محسوسة في عائدات صادرات منتجاتها النفطية التي بلغت نحو 10 مليار دولار عام 2021، مقارنة بنحو 6 مليار دولار عام 2020، أي بنمو 67%.  ويبلغ متوسط إنتاج النفط في البحرين 206 آلاف برميل يوميا، منها 163 ب/ي من حقل أبو سعفة و 43 ب/ي من حقل البحرين. نتاج حقل أبو سعفة يُصدَّر نفطا خاما إلى الخارج. أما نفط حقل البحرين، فيجري تكريره بالكامل في مصفاة بابكو، إضافة إلى النفط الخام القادم من السعودية،  بقيمة 4.7 مليار دولار عام 2021 مقارنة بـ 2.7 مليار دولار عام 2020. وواضح أن عائدات العام الحالي 2022 ستكون أكثر. وباحتساب سعره اليوم (23 مارس) بـحوالي 118 دولارا للبرميل، فإن الدخل اليومي من النفط الخام يفوق 24 مليون دولار. وإذا كان صندوق النقد الدولي يقدر أن البحرين تحتاج إلى سعر 107 د/ب كي يتحقق توازن الميزانية، فإن هناك فائضا يوميا بنحو 2.3 مليون دولار. والحديث لحد الآن عن النفط الخام. ناهيك عن أسعار المنتجات النفطية.

وربما هنا نجد الجواب على التساؤل الذي سبق وأوردناه في مقال “هل من الأصول بيع أصول النفط والغاز؟” (“التقدمي”، يونيو 2021) حول لماذا تم الضغط الشديد على المشرعين لاستعجال توقيع عقد الاستكشاف والمشاركة بالإنتاج (EPSA) قبل انفضاض الدورة البرلمانية وبشروط غير معهودة لصالح شركة النفط إيني؟

مفهوم أن هذه الأرقام بِكِبَرها وطفراتها تحفز كلا من المسؤول الحكومي أو المواطن العادي لأن يُغنِّي كل على ليلاه.

أما في بقية المقال فليلانا ثالثة. ندرك أن تقليص الدين العام واجب، وتلبية حاجات المواطن أيضا واجب. لكن بينهما واجب ثالث، بالغ الأهمية – التنموي الاقتصادي الاجتماعي، الذي لا نكاد نسمع عنه ما يرضي الأنفس. أما آن الأوان لأن نقلع عن غلبة التفكير بمعادلة “مال – مال”، بالضبط، كما هي معادلة عمل المصارف، معادلة الرأسمالية المالية ؟ أما آن أن ننتقل فعلا، لا قولا لمعادلة “مال – إنتاج (عمل) – مال”، أي أن نزج بما تيسر من مال ريعي في استثمار إنتاجي يسد حاجات المجتمع ويولد مالاً أكبر؟ هذا ليس مجرد كلام فضفضة يائس. بل وضع الإصبع على موطن الألم.

وكمثال مؤلم حقا، سنناقش التالي. قرأنا في العام الماضي خبر شكر مملكة البحرين لجمهورية السودان الشقيقة على إلغاء قرار وقف ترخيص مشروع “خيرات البحرين” بمحلية الدبة، وأن شركة ممتلكات البحرين القابضة “ممتلكات” “بصدد الانتهاء من إعداد دراسة استراتيجية شاملة للمشروع (“الوطن”، 26 أغسطس 2021 ). وبالمقابل قرأنا من السودان في 02.09.2021 في مقال بعنوان (“خيرات البحرين” أنموذج “الاستهبال” الاقتصادي!!..) يشير إلى أنه “حتى اللحظة ما زال قرار مصادرة مشروع خيرات البحرين ساري المفعول”. ونسب المقال إلى مفوض مفوضية الاستثمار بالولاية الشمالية في السودان السيد بشرى الطيب أن ما صدر عن وزارة الخارجية مجرد تعميم صحفي، وليس قرار يلغي نزع المشروع. وأن البحرين لم تلتزم بشيئ من اشتراطات الاتفاق، ومنذ عام 2013 لم تستثمر دولارا واحدا منذ استحواذها على هذا المشروع البالغة مساحته 100 ألف فدان (أكبر من نصف مساحة البحرين)، وأن البحرين لم تستأنف ضد قرار النزع حتى تاريخه. وقد استأجرت البحرين هذه المساحة لمدة 99 عاما، على أن تُستغَل لتعزيز الأمن الغذائي لمملكة البحرين في مجال الثروتين الزراعية والحيوانية. وقد حذر السيد الطيب “من مغبة تدخل أي جهة غير مختصة في هكذا قرارات استراتيجية، لأن مثل هذا التدخل يهزم الفكرة التي تهدف إلى وضع مصلحة الوطن في المقام الأول من أساسها”*.

لا نعرف تطورات القضية مع السودان الشقيق بعد ذلك. لكن الذي نعرفه هو أنه في نوفمبر 2016 كان سعر طن القمح، مثلا، 124 دولارا، وفي أبريل 2021 وصل إلى 182 دولارا، وفي نوفمبر من نفس العام ارتفع إلى 306 دولارا. ومنذ بداية هذا العام ارتفعت أسعار القمح بمعدل 50%.

ونعرف أيضا أن البحرين استوردت 161 ألف طن من القمح الأسترالي عام 2020 بقيمة 17 مليون دينار، بسعر 260 دولارا للطن. كما استوردت في نفس العام كمية ضئيلة من القمح الأميركي بسعر 660 دولارا للطن!! (“الوطن”، 5 مارس 2021). وبالرغم من ارتفاع أسعار القمح، إلا أن الدعم الحكومي لمشتريات شركة البحرين لمطاحن الدقيق دعما لأسعار الخبز انخفض من 10.6 مليون دينار عام 2019 إلى 9.8 مليون دينار عام 2020.

ونعرف كذلك أن واردات البحرين من السلع الغذائية زادت عام 2020 عن المليون طن، بقيمة تقارب المليار دينار بحريني، لتلبية حاجات السكان الذين تسارع عددهم إلى قرابة 1.5 مليون نسمة بسبب السياسات السكانية والتغييرات الديمغرافية غير الطبيعية واللاعقلانية. وتستورد السلع الغذائية الأساسية (حليب، ألبان، دواجن، رز، لحوم، بصل، قمح، بطاطا، وغيرها) في الأساس من السعودية، الهند البرازيل، أستراليا، باكستان، الإمارات. وعموما، تستورد مملكة البحرين نحو 90% من احتياجاتها الغذائية من الخارج.

ترى، كم كانت البحرين ستحقق من نجاح في صون أمنها الغذائي وإيجاد الاكتفاء الذاتي، من القمح والمنتجات الزراعية والثروة الحيوانية ، ثم الاتجاه إلى تصديرها للأسواق الأخرى لو أنه تم استثمار مشروع “خيرات البحرين” كي يكون بالفعل منتجا للخيرات المادية لمصلحة الاقتصادين والشعبين في البحرين والسودان ؟

إن مصلحة جميع الأطراف، هنا وفي السودان الشقيق، ومن واجبها، وفي مقدمتهم النواب، أن تكشف ملابسات قضية “خيرات البحرين” بهدف إعادة تصحيح الوضع وإحياء المشروع بجدية. والأمر مطلوب بإلحاح، خصوصا في هذا الوقت، حيث ارتفاع أسعار النفط مقابل تحديات طفرات ربما تكون كبيرة جدا في أسعار الغذاء. والهدف هنا مزدوج: جعل “خيرات البحرين” إسما على مسمى من جهة، وضمان استغلال عائدات النفط المرتفعة حاليا في استثمار إنتاجي يخدم قضايا التنمية الاقتصادية الاجتماعية المستدامة.

هذا  واحد فقط من مجالات متعددة متاحة للاستثمار الإنتاجي في الداخل أو في الخارج، نأمل أن تتوفر إرادة سياسية حقيقية وهادفة لتفعيلها.

*  ( https://www.alnilin.com/13201870.htm )